ناشطون من حركة السترات الصفراء يتظاهرون  في باريس.(أرشيف)
ناشطون من حركة السترات الصفراء يتظاهرون في باريس.(أرشيف)
الإثنين 10 ديسمبر 2018 / 20:13

ربيع أوروبي أصفر

الحراكات الشعبية حتى لو كانت صغيرة ومحدودة تظل مؤشراً على وجود خلل خطير في الحكم وفي العلاقة بين الدولة ورعاياها. وقد يتحول الخلل إلى صاعق تفجير لثورة عارمة إن لم يتم نزع فتيل الاحتقان بمبادرات سياسية

ليس ما تشهده فرنسا الآن ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن الهبة الجماهيرية الكبيرة التي تشهدها باريس ومدن فرنسية أخرى تحمل مؤشرات تخليق ثورة شعبية عارمة تجتاح فرنسا كلها وربما تستنسخها دول أخرى في غرب وشرق أوروبا بعد أن تغيرت فلسفة الحكم فيها وتحولت من الرعاية إلى الجباية في ظل رأسمالية متوحشة تقتات على حساب الفقراء والطبقات الضعيفة.

ربما يرى البعض أن توقع الثورات في أوروبا مبالغة وجنوح إلى الخيال، لكن لهذا التوقع ما يبرره من مقدمات نراها في فرنسا وبلجيكا وهولندا في غرب القارة مثلما نراها في رومانيا وبولندا والجبل الأسود في الشرق الأوروبي.

صحيح أن لا علاقة مباشرة بين الاحتجاجات في الدول الست، وصحيح أيضاً أن خروج الآلاف من الأوروبيين إلى الشوارع هو خروج عفوي، وقد تمت الدعوة له في وسائل التواصل الاجتماعي بعيداً عن الأحزاب وبياناتها، وملفت كذلك عدم وجود رموز وعناوين واضحة لقيادات هذه الهبات الشعبية. لكن ذلك لا يعني استمرار الحراك الأوروبي بلا تنظيم وبلا عقل سياسي، لأن الحراك الشعبي يفرز تنظيمه وقيادته بطريقة تلقائية وبما تفرضه ظروف الميدان والمواجهة.

هكذا كان حال الثورة الطلابية في فرنسا في العام 1968، حين خرجت جموع الطلاب إلى الشوارع منادية بالحرية والعدالة الاجتماعية، وكذلك كان حال الإصلاحيين في ربيع براغ المحروق بالدبابات، حين التفت جموع الشعب حول دوبتشيك وتبنت دعواته الإصلاحية قبل أن يتحرك المحافظون في الحزب الحاكم لقمع الثورة التي اعتبرها الحزب ثورة مضادة.

وهكذا بدأت حركة تضامن في بولندا، وإن كان زعيمها ليخ فاونسا في عام 1980 مرتبطاً بالمخابرات المركزية الأمريكية، ومستظلاً برعاية بابا الفاتيكان للانقلاب على النظام الشيوعي في البلاد.

وفي أوكرانيا أيضاً تحول الاحتجاج على نتائج الانتخابات في العام 2004 إلى ثورة برتقالية حملت زعيمها يوشنكو إلى قصر الرئاسة في كييف ليعلن الانتقال من التحالف مع موسكو إلى التبعية لواشنطن!

في حالات كثيرة كانت الهبات الشعبية عفوية، وفي بعض النماذج كانت بصمات الأجهزة الاستخبارية الأمريكية والغربية واضحة في الحراك الشعبي، وخاصة في شرق القارة. ولعل الأمريكيين كرروا في بولندا 1980 ما فعلوه في إيران 1952 حين استطاعوا تحريك مائة ألف إيراني وإخراجهم إلى الشوارع لإسقاط حكومة مصدق. وربما تم استنساخ ذات التجربة في أوكرانيا 2004.

محصلة القول إن الحراكات الشعبية حتى لو كانت صغيرة ومحدودة تظل مؤشراً على وجود خلل خطير في الحكم وفي العلاقة بين الدولة ورعاياها. وقد يتحول الخلل إلى صاعق تفجير لثورة عارمة إن لم يتم نزع فتيل الاحتقان بمبادرات سياسية.

ولعل اللوحة الأوروبية التي كانت فيما مضى مرسومة بلونين فقط هما الأزرق الرأسمالي والأحمر الشيوعي، أصبحت الآن أقل وضوحاً وأكثر حساسية بعد التغيير الجارف الذي أطاح بالنظم الماركسية في الشرق، وبعد أن وجدت المجتمعات نفسها حاضنة للصراع الأبدي بين الرأسمالية وأعدائها الذين كانوا ذات يوم شيوعيين، وأصبحوا الآن ليبراليين يرفعون يافطات يسارية.

ظهر اللون البرتقالي في الخريطة السياسية لأوروبا في بدايات الألفية، لكنه لم يكن آخر الألوان، فقد جاءت السترات الصفراء لتضيف إلى المشهد لوناً جديداً ربما نعرف في القادم من الأيام دلالاته السياسية. لكن ما يثير التشكك والريبة في شأن الهبة الصفراء ونواياها هو محاولة واشنطن ركوب الموج الفرنسي والتلويح بتهديد باريس بثورة تحتج فقط على اتفاقية المناخ، بحسب الرئيس الأمريكي الذي يرى في ثورة السترات الصفراء رداً على دعوة باريس وبرلين إلى تشكيل جيش أوروبي.

قد تكون رؤية دونالد ترامب سطحية وساذجة، وهذا ليس غريباً على رئيس الولايات المتحدة، لكن هناك أمر مريب يدعو إلى إعادة التفكير في تقدير خطورة اليمين الشعبوي الذي يمثله ترامب، فالهبة الشعبية الفرنسية بعيدة تماماً عن التأطير وعن الشعار الحزبي، ما يجعلها تعبيراً عن قوة دفع اليأس وهي أسلوب اليمين الشعبوي دائماً.