الممثل الأمريكي كافن سبايسي.(أرشيف)
الممثل الأمريكي كافن سبايسي.(أرشيف)
الأربعاء 12 ديسمبر 2018 / 20:12

المنتج شيء والإنتاج شيء آخر

أؤمن بأنّ هناك جرائم في الحياة لكنْ لا جرائم في الفنّ. سبايسي ينبغي أن يُحاكَم على كلّ جريمة ارتكبها شخصه الفعليّ. لكنْ ليس على الفنّ

ماذا لو قبل ألبرت أينشتاين في 1948 أن يكون أوّل رئيس جمهوريّة لدولة إسرائيل؟ بالطبع، لم يحصل هذا، لكنّه كان ممكناً الحصول لو أنّ آراء أينشتاين السياسيّة اختلفت عمّا كانته فعلاً. وهذا، في مطلق الحالات، ما لا تربطه أيّة صلة، سلباً أو إيجاباً، بموقعه في تاريخ الفيزياء والرياضيّات.

وماذا لو كشف لنا مؤرّخٌ ما أنّ وليم شكسبير، أو أبا الطيبّ المتنبّي، كانا متحرّشين جنسيّاً؟

هل كان قبول أينشتين برئاسة إسرائيل ليحملنا على مقاطعة إسهاماته في العلوم؟ وهل كان لاكتشافنا الميل إلى التحرّش عند شكسبير والمتنبّي ليدفعنا إلى مقاطعة مسرحيّات الأوّل وقصائد الثاني؟

ما يجمع بين الحالتين الافتراضيّتين هو رفض مبدأ أخذ الإبداع بجريرة المبدع، أو العلم بجريرة العالم. فالمبدع والعالم فردان قد يرتكبان من الأفعال ما يستحقّان عليه المحاكمة وربّما السجن، وقد يعتنقان من الأفكار والإيديولوجيّات ما يستحقّان عليه الإدانة والشجب. لكنّ هذا لا صلة له بتاتاً بما ينتجه المبدع أو العالم ممّا هو ملك للإنسانيّة ورافد من روافد تقدّمها.

مناسبة هذا الكلام ما كتبه قبل قرابة أسبوعين المخرج والناقد الأمريكيّ بول شرايدر. فقد اقترح أن يتولّى الممثّل كيفين سبايسي (الذي شُهّر به وقوطع وحُذف دوره وصورته من أفلامه السابقة بسبب تحرّشه) دور البطولة في سيناريو اطّلع عليه شرايدر ووصفه بأنّه "جميل". وما لبث الأخير أن أضاف مفسّراً: "أؤمن بأنّ هناك جرائم في الحياة لكنْ لا جرائم في الفنّ. سبايسي ينبغي أن يُحاكَم على كلّ جريمة ارتكبها شخصه الفعليّ. لكنْ ليس على الفنّ. الفنّ كلّه جريمة. إنّ معاقبته كفنّان لا تفعل سوى ترخيص الفنّ. ضعوا سيلين في السجن. ضعوا باوند في السجن. ضعوا وايلد وبروس إذا لم يكن من بدّ. لكنْ لا تُخضعوا فنّهم للرقابة".

وفيما كان شرايدر يكتب عبارته هذه، كان مهرجان مراكش للسينما يكرّم الممثّل الأمريكيّ روبرت دي نيرو الذي هو أحد ألمع الممثّلين الذين أنتجهم تاريخ السينما. ولحسن الحظّ فإنّ القيّمين على المهرجان امتلكوا النباهة والشجاعة الكافيتين لكي لا يقاطعوا دي نيرو بسبب زياراته إسرائيل، وربّما تعاطفه معها (وثمّة من يقول إنّه يمتلك سلسلة مطاعم في الدولة العبريّة).

إنّ أخطر ما يقود إليه الربط بين المنتج والإنتاج لا يقتصر على الاحتجاب عن إسهامات وإبداعات كونيّة يُفضي الاحتجاب عنها إلى إفقار متعدّد الأوجه. ذاك أنّ الربط المذكور يخبّىء ميلاً إلى تناول الإنسان وفقاً لتعريف ضيّق ومُلزم يختصره بالكامل. وهذا، في غالب الأحيان، تعريف سياسيّ أو أخلاقيّ لا صلة له، بالضرورة، بالإسهام أو الإبداع المعنيّين. فوق هذا، حتّى حين تكون هناك صلةٌ ما (وفق تأويل معيّن)، كالصلة بين فلسفة هايدغر ونازيّته، أو بين ستالينيّة بريخت ومسرحه، أو بين شعر أدونيس ومواقفه السياسيّة، فهذا ما لا يسوّغ حجب الفلسفة أو المسرح أو الشعر الذي خلّفه هؤلاء بذريعة سياساتهم وإيديولوجيّاتهم.

وفكرة المقاطعة والحجب تغدو أكثر حدّة وأذى، بالمعنى المباشر للكلمة، حين يكون الإنتاج المعنيّ علميّاً أو طبّيّاً. فماذا نفعل، مثلاً، إذا اكتشف مركز علميّ في إسرائيل، تموّله "الدولة الصهيونيّة"، دواء للسرطان أو للإيدز؟ وماذا لو كان ذاك المكتشف متحرّشاً؟