الكاتب البريطاني الهندي الأصل ف. ن. نايبول.(أرشيف)
الكاتب البريطاني الهندي الأصل ف. ن. نايبول.(أرشيف)
الأربعاء 12 ديسمبر 2018 / 20:48

انقسام نايبول

يتصيد نايبول دائماً بشرة الهنود الزيتية، وتشققات جلد أقدامهم، والروائح والدهانات، والبهارات النفَّاذة، وجروح الفقر الغائرة، وسذاجة الممارسة السياسية عن طريق الزهد، فلم يكن من محبي المهاتما غاندي

 يُصدِّر الروائي البريطاني، الهندي الأصل، ف. ن. نايبول (1932- 2018)، لقارئ أعماله، إحساساً قوياً بالمرارة، ثم تتداعى في عقل القارئ كلمات أخرى مثل اليأس والكراهية والسخرية الهادئة السوداء. ولضبط تلك التداعيات والأحاسيس، يُخفِّض نايبول إلى أقصى درجة، حدة الانفعالات. ولتقريب ما أقصده بالانفعالات، آخذ على سبيل المثال، أكثر الكتَّاب استخداماً لطاقة الانفعالات في شخصياته، وهو فيودور دوستوفسكي. نايبول نقيض دوستوفيسكي.

ليستْ القيمة في الكتابة الأدبية، أو الفن عموماً، تُقاس بوجود الانفعال العادي، ووجود المرارة العادية، ووجود اليأس العادي، بل في تضخيم الانفعال أو المرارة أو اليأس، إلى حدود لا نهائية. يعتني الكاتب ببعض الأحاسيس بدايةً، وسباقه الفني يكون في تحويل تلك الأحاسيس العادية، إلى مناطيد عملاقة تسبح في السماء.

نايبول ابن المُستعْمَرة الهندية، ينظر بعين النقص والانبهار والحسد، إلى المُستعْمِر البريطاني. بطل نايبول المُفضَّل في رواية "نصف حياة"، ورواية "بذور سحرية"، هو ويلي تشاندران، نصف اسمه بريطاني، والنصف الآخر هندي. كان انشطار نايبول النفسي، لا علاج له، وهو مادة كتابته، ووقود تأججها.

في أدغال قرية هندية فقيرة، ينضم ويلي تشاندران إلى رجال العصابات الثوريين، ليس إيماناً منه بالثورة، بل ليدفن نصفه البريطاني، كنوع من إفناء الذات، وتعريضها للضياع في حثالة بشرية فاشلة، قريبةً منه، وغير قادرة على تمثيل نفسها. وأثناء ضياع الذات، يلتقط ويلي كل ما هو جارح ومؤلم.

بأعصاب باردة ينظر ويلي تشاندران في رواية "بذور سحرية"، إلى هذا المشهد "بعض الصبيان العجاف يلعبون نوعاً مشوهاً من لعبة الكريكيت، بواسطة كرة تنس شديدة القذارة، وأمّا المضرب فقد تم ارتجاله من جذع شجرة جوز هند، وبدلاً من عصيّ الهدف، وضعوا صندوقاً. شاهد ويلي أربع أو خمس كرات تنطلق. لم يكن هناك مهارة، ولا معرفة حقيقية بأصول اللعبة".

لا يتسامح ويلي تشاندران مع صبيان لعبة الكريكيت، المُشوَّهة، لكن ويلي تشاندران نفسه ترك في رواية "نصف حياة" مهنة الأدب، والحياة في بريطانيا، ليعود في رواية "بذور سحرية"، إلى الحياة في الهند، وكأنها عودة انتحار معنوي.

هل كان ويلي يعتقد أنه مجرد مُقلد يكتب أعمالاً أدبية على غرار روديارد كبلينغ، وإي. إم. فورستر، وسومرست موم؟ كأنَّ ويلي تشاندران لا يعرف أصول الكتابة الأدبية، لا يعرف قواعد لعبة الكتابة، كما لا يعرف الصبيان الهنود قواعد وأصول لعبة الكريكيت. لا يتورع نايبول عن وضع بطله وأبناء بلده في مَشاهِد قاسية ثم يستحلب بهدوء وبطء مرارة الفشل.

يستحسن المُستعْمِر البريطاني وصفة نايبول في الكتابة عن تاريخ المُستعْمَرة الهندية، لكنه لا يُصرِّح بإعجابه، وبدلاً من التصريح، يُناكد ويداعب ابن المُستعْمَرة النجيب، بخبث قائلاً: حتى هذه القسوة سير نايبول لم يكن إي. إم. فورستر يصل إليها. تخيل معي مشهد صبيان لعبة الكريكيت في رواية لفورستر. أعتقد أن فورستر كان سيتسامح مع صبيان لعبة الكريكيت، وربما جعل بطله يلعب معهم، مع تمرير لطيف لأصول وقواعد اللعبة إن أمكن. أنت إنجليزي أكثر من الإنجليز أنفسهم سير نايبول. يبتلع نايبول دعابة المُستعْمِر بحقد ومرارة، وتزداد قسوته.

في قصة "واحد من كثيرين" من كتاب "في بلاد حرة"، يصف نايبول حال سانتوش خادم دبلوماسي هندي، على متن طائرة تنطلق من مومباي إلى واشنطن. سانتوش في قميصه الفضفاض وسرواله ذي الحزام العريض المشدود بحبل. ملابس ليستْ قذرة وليستْ نظيفة. هذه الملابس لن ينظر إليها أحد في مومباي، أمّا هنا على الطائرة، فإن الرؤوس تستدير كلما انتصبت واقفاً.

ملاحظة نايبول القاسية، وهي أن ملابس سانتوش ليستْ بالقذرة لكنها أيضاً ليستْ بالنظيفة، تروق للقارئ الغربي. يتصيد نايبول دائماً بشرة الهنود الزيتية، وتشققات جلد أقدامهم، والروائح والدهانات، والبهارات النفَّاذة، وجروح الفقر الغائرة، وسذاجة الممارسة السياسية عن طريق الزهد، فلم يكن من محبي المهاتما غاندي.

يذهب ويلي تشاندران في رواية "نصف حياة" إلى طبيب الأسنان بعد آلام مُفاجئة. يندهش الطبيب من كثافة تراكم الجير على جذور أسنان ويلي تشاندران، الذي لا يُظهر بعد زيارة الطبيب، اهتماماً بأسنانه، وكأنَّ يكفي نايبول في حياته الشخصية، اهتمامه إلى حد الهوس، بسلوكيات الإنجليز في الطعام والشراب، والحفاظ على الصحة العامة.

في رواية نايبول "بذور سحرية"، يقول ويلي تشاندران: إنه الأمر الوحيد الذي عملت عليه طوال حياتي، ليس لأن أكون في دياري حيثما وُجِدْتُ، بل لأبدو وكأنني في دياري. العبارة تلخص حياة الكاتب الراحل، وتجربته الأليمة بين الهند وبريطانيا، بين المُستعْمَر والمُستعْمِر.