السبت 15 ديسمبر 2018 / 19:43

أكاديمية أفلاطون في السعودية

منذ عشرين عاماً وأنا وغيري نكتب مطالبين بتدريس الفلسفة في السعودية، ولا شك أننا مبتهجون للغاية لتحقق هذا الحلم الكبير أخيراً في هذه الحقبة التنويرية التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ذلك الشاب الذي أعلن منذ البداية أن المجتمع السعودي لن يستمر في العيش بالطريقة التقليدية التي تخاف من كل شيء وتحرّم كل شيء.

من الناس من لا يفهم من الفلسفة إلا أنها تدعو إلى الشك في الدين، مع أن هذا الفهم في غاية البعد عن الحقيقة، والدليل على ذلك هو أنك لو عددت أسماء الفلاسفة المشاهير أصحاب المشاريع الفكرية الكبرى، الواردة أسماؤهم في الموسوعات المعتمدة، منذ زمن طاليس في الحقبة ما قبل سقراطية إلى يومنا هذا، لوجدت أنهم يقاربون 200 شخصاً، 90% تزيد أو تنقص، هم من المؤمنين بإله ما، وليسوا بملحدين. الفلسفة لا تدعو للإلحاد ولكنها تدعو للحقيقة ولتمحيص الحقيقة، ويفترض فيمن كان على الحق ألا يخاف من الحقيقة. كل ما في الأمر أن الفلسفة تعطي الإنسان زوايا مختلفة لرؤية نفس الشيء، لكي ترى بيتك من الطائرة، الفلسفة تعشق معرفة النفس، وتسعى لفحص المعرفة، وللهداية العملية في دروب الحياة.

كفّر أبو حامد الغزالي الفلاسفة في ثلاث مسائل وبدّعهم في سبع عشرة مسألة، لكن من هم الفلاسفة الذين وقع عليهم التكفير هنا؟ هل أفلاطون وسقراط، مثلاً، من ضمنهم؟ الصحيح أن الذين كفرهم الغزالي ليسوا سوى اثنين: الفارابي وابن سينا. لذلك أجده من المضحك أن يتحدث أحدٌ اليوم عن "عقيدة الفلاسفة" وكأن الفلسفة دين، بينما هي ليست كذلك على الإطلاق. إنك لتنظر في كتاب فلسفة حديث مثل "فلسفة العلم من الألف إلى الياء" لمؤلفه ستاتس بسيلوس فلا تجد في هذه الموسوعة الضخمة أي شيء عن الأديان، لا حُباً ولا كُرهاً، فهذا القسم من أقسام الفلسفة ليس معنياً بدراسة الدين، بل فلاسفته "فلاسفة العلم" قد حصروا حياتهم في قضايا العلم: ما هو تعريف العلم؟ ما أدواته؟ هل العلم في تطور للأبد، أم أنه كما يقول توماس كون، ليس سوى ثورات تشتعل ثم تخبو، ليس الحديث منها بأولى من القديم.

الفلسفة نشاط ذهني معرفي يقوم به حكماء بني الإنسان ونخبة البشرية منذ أن وجدوا أنفسهم في هذا العالم في مقابل ظواهر طبيعية ووقائع حياته، وكلها تحتاج إلى العقلنة والفهم. من خلال هذه الأداة التي أسماها الفلسفة، طرح الإنسان الحكيم تساؤلاته وأجوبته الكبرى عن الوجود والمعرفة، أكبر قضيتين واجهتاه في تاريخه كله.

هل معنى ما تقدم أنه لا يوجد في الفلسفة شك؟ بطبيعة الحال الجواب هو لا، الشك عنصر أساس في الفلسفة، وكيف لنا أن نزيل الجهل والمعلومة الخاطئة إلا بالشك فيها؟ كيف تمكن غاليليو غاليلي من تدمير فلسفة أرسطو وهدم منزله حجراً حجراً لولا أنه شك فيها في البداية؟ كيف أمكن لألبرت آينشتاين أن يهدم مفهوم الزمان والمكان لولا أنه شك في زمن إسحاق نيوتن المطلق؟ لكن الشك نوعان: شك منهجي وشك مذهبي، الشك المنهجي هو الذي اشتهر بسبب الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، رغم أنه موجود عند الغزالي وقبله عند القديس أوغسطين وقبله عند أرسطو نفسه، وفكرته أن اليقينيات يجب أن تُبنى على اليقينيات، والمشكوك فيه مطّرح حتى يشهد العقل بصحته، هذا الشك المنهجي هو أحد أهم أسباب النهضة العلمية التي لا زال العالم الغربي يعيش في نعيمها ويتفوق على الأمم في كل الحقول بسببها. النوع الثاني من الشك هو الشك المذهبي، ابتدأه السفسطائيون الاغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانوا يتشككون في صحة كل شيء حتى صاروا عقبة في طريق تقدم العلم، وشكاً في وجود أية معرفة، ومن أثبت منهم وجود المعرفة، أنكر إمكانية السير بها نحو الموضوعية والتعميم، لكن حتى هؤلاء لا يخلوا وجودهم من فائدة عظيمة، فهم من استفز العقول الكبيرة سقراط وأفلاطون وأرسطو للرد عليهم وقيام النهضة المعرفية وتشييد المناهج الفلسفية العظمى.

الفلسفة ليست عقيدة ولا لا/عقيدة، إنما إحياء للتفكير النقدي، وهذا النمط من التفكير هو الذي يحمينا من أغلاط التعصب التي لا تنتهي. هذه الملَكة، ملكة النقد، هي ما يحتاجه الإنسان للتخلص من الخرافات والجهالات من أجل النهوض المعرفي والعلمي، أما ما كان حقيقياً، فليس عليه خوف من الفلسفة إطلاقاً.