جنود إسرائيليون في حملة أمنية بالضفة الغربية (أرشيف)
جنود إسرائيليون في حملة أمنية بالضفة الغربية (أرشيف)
الأحد 16 ديسمبر 2018 / 20:06

ثمة ما هو أكثر من هذا..!!

في الحملة الإسرائيلية الأخيرة، في الضفة الغربية عموماً، ورام الله وقراها على نحو خاص، على مدار أسبوع مضى، ثمة أكثر من مؤشر على تصعيد مُفتعل. ويبقى السؤال: لماذا يفتعل الإسرائيليون التصعيد، وما هي الأهداف التي يسعون لتحقيقها؟

بدايةً، لا يحتاج التدليل على افتعال التصعيد إلى أكثر من تأمل حقيقة أن عدداً من المؤسسات، كوكالة وفا للأنباء، واللجنة الأولمبية، إضافةً إلى مؤسسات تجارية، وبيوت سكنية، تعرضت للاقتحام، وأن ذريعة البحث عن، ومصادرة كاميرات المراقبة، وملاحقة "مطلوبين"، لا تبدو مقنعة ولا كافية.

للوهلة الأولى، يبدو التصعيد الإسرائيلي رداً على عمليات استهدفت الجنود والمستوطنين، ولكن تصريحاً لرئيس الحكومة نتانياهو يُضفي قدراً كبيراً من التعقيد على الدلالة السياسية للمشهد، وحقيقة ما يجري على الأرض. قال نتانياهو: "إن الهدوء في غزة مشروط بالهدوء في الضفة".

هذه الرسالة موجهة إلى حماس، في غزة، بطبيعة الحال. ففي الآونة الأخيرة تم "تبريد" الوضع هناك بموافقة إسرائيلية، من جانب نتانياهو نفسه، رغم انتقادات حتى من حلفائه في الحكومة، على نقل حقائب الأموال القطرية لتسديد رواتب موظفي حماس، وجهازها المدني، إضافةً إلى السماح بشحنات الوقود، وزيادة عدد ساعات التيار الكهربائي. بمعنى أن "التسهيلات" التي وافق عليها، مشروطة بالتزام حماس بالهدوء ليس في غزة وحسب، ولكن في الضفة الغربية، أيضاً.

وبهذا، يضرب نتانياهو أكثر من عصفور بحجر واحد: يُوسع النطاق الجغرافي لشروط "التسهيلات"، ويُوحي بأن حماس هي مَنْ يقف وراء "موجة العنف" في الضفة الغربية، ويُضعف مكان ومكانة السلطة الفلسطينية، في نظر الفلسطينيين أنفسهم، ويُسهم، بالتالي، في زعزعة قدرتها على تمثيلهم والتفاوض باسمهم.

وكما تبدو حملة التصعيد الإسرائيلية مُفتعلة، فإن الإشارة إلى حماس بوصفها "المحرض" الرئيس في الضفة الغربية تبدو مُفتعلة، أيضاً. فالواقع، على الأرض، أكثر تعقيداً، فهناك ما لا يحصى من علامات الاحتقان نتيجة انسداد الأفق السياسي، وتغول الاستيطان في الضفة الغربية.

والجيل الجديد من الفلسطينيين الذي وُلد بعد اتفاقية أوسلو، وترعرع في سنوت انهيارها، أِكثر راديكالية، وأقل ميلاً إلى الأيديولوجيا، من أجيال سبقت، وأغلب هؤلاء لا ينتمي إلى تنظيمات قائمة، بما فيها حماس، بل يُعبر عن غضبه ويأسه في أعمال فردية من نوع الهجوم بالسكاكين، والتصدي العفوي، بوابل من الحجارة، لجنود الاحتلال والمستوطنين كلما وقع احتكاك معهم.

وهذا ما يُقلق الإسرائيليين في حال تمكن هؤلاء من العثور على صيغة تنظيمية، تمكنهم من تفريغ طاقة الغضب، في مقاومة فاعلة للاحتلال.

لذلك، في تصريح نتانياهو ما يوحي بالرغبة في العثور على عنوان يمكن التفاوض معه، والضغط عليه، بسياسة العصا والجزرة كلما اقتضت الحاجة. فالكلام عن حماس بوصفها "المحرض" الرئيس يُسهم في "تسمينها" دعائياً، ولكنه يزيد من مساحة الضغط عليها. وفي السياق نفسه، تفقد السلطة الفلسطينية المزيد من رصيد، في الشارع، لم يتبق منه الكثير.

وثمة ما يبرر التوقف أمام هذه النقطة، بالذات، فالنيل من السلطة الفلسطينية، في نظر الإسرائيليين، لا يستهدفها لذاتها، بل بوصفها عقب أخيل، والمدخل الطبيعي للنيل من منظمة التحرير الفلسطينية لتجريدها من شرعية تمثيل الفلسطينيين شعباً وقضية.

أسهم استيلاء حماس على غزة في زعزعة هذه الشرعية، ولكنها ما تزال تحظى بالاعتراف في الإقليم والعالم، بما في ذلك الجامعة العربية، والأمم المتحدة، ولديها سفارات وممثلين، ولكن تقويض شرعيتها لدى الفلسطينيين أنفسهم، لا يضمن لها البقاء، فترة طويلة من الوقت، ممثلاً شرعياً ووحيداً في الإقليم والعالم.

ويبدو أن صانعي القرار في إسرائيل يراهنون على نجاح سيناريو كهذا في مرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس، وريث الشرعية الوطنية، الذي يحظى أيضاً، بالشرعيتين العربية والدولية، على مستوى الدول والمؤسسات.

وفي ذهن الإسرائيليين أن مرحلة ما بعد الرئيس عباس ستشهد صراعات محلية ومناطقية على موقع الأولوية، وفوضى عارمة، يصبون فيها المزيد من الزيت على النار، وقد يؤدي تضافر أشياء كهذه وتداعياتها، إلى إغلاق فصل كامل من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية. وفتح صفحة جديدة يتم التعامل فيها مع الفلسطينيين كتجمعات ديمغرافية مفتتة ومعزولة، وحالات إنسانية، بلا قضية سياسية مُوحدة وجامعة.

وبهذا المعنى، لا يبدو التصعيد الإسرائيلي المُفتعل مجرد ردة فعل موضعية، وغاضبة، على تآكل قوة الردع في الضفة الغربية، فثمة، بالتأكيد، ما هو أكثر من هذا. والمشكلة، في هذا السيناريو، كما في كل سيناريو آخر، أن الطرف القوي في الصراع، حتى وإن أخطأ في الحساب، يمكنه إعادة التموضع، بأقل الخسائر، ولكن أخطاء الضعيف، الذي لا يملك مساحة واسعة للمناورة تلاحقه، ولا ينجو بسهولة، وبلا خسائر فادحة، منها.