رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي (أررشيف)
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي (أررشيف)
الأربعاء 19 ديسمبر 2018 / 20:28

شراء الوقت

كثرت الاستعارات الأدبية في التعليق على عملية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، المعروفة باسم "بريكست".

يعوِّل الاتحاد الأوروبي على قدرته في عزل بريطانيا اقتصادياً، في حالة خروجها دون إبرام اتفاق. وإلى الآن لا يُصعِّد الاتحاد الأوروبي من كلماته، فلم يستخدم بعد ضد بريطانيا كلمة "العقوبات"

عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كأنها صعدت من عوالم صمويل بيكيت، أو من عوالم فرانز كافكا، أو من محاولات الفلاسفة القدامى لتربيع الدائرة. عندما تلجأ السياسة في خطابها المباشر الواقعي، المرتبط بمعرفة واضحة، معرفة رأس المال، معرفة قنوات جريانه، إلى بيكيت وكافكا، نستطيع حينئذ تقدير حجم الفشل الذي يُعانيه اتفاق "بريكست".

النكتة العبثية التي تقال الآن في أروقة الصحف والمجلات، هي ضرورة خروج بريطانيا من تيريزا ماي أولاً، قبل خروجها من الاتحاد الأوروبي. ونكتة أخرى تقول إن موسكو قد تكون وراء تشبث رئيسة الوزراء بمنصبها، إلا أن الكرملين نفى نفياً قاطعاً تدخله في الحياة السياسية لدولة كبيرة مثل بريطانيا.

على الأرجح رئيسة الوزراء السيدة تيريزا ماي لا تعرف أدب بيكيت وكافكا، كما هي لا تعرف العبث ونكاته، والدليل على هذا، تكرار خطابها الواثق غير المبالي، في رحلاتها البندولية بين بروكسل وقاعة البرلمان البريطاني.

مهمة السيدة تيريزا ماي تشبه مهمة بطل كافكا في رواية "القصر"، السيدة ماي مدعوة بالخطأ لإنقاذ بريطانيا، والسيد "ك" بطل كافكا، مدعو بالخطأ إلى مُمارسة مهنة المساحة. لا القصر استدعى السيد "ك" المساح، ولا بريطانيا استدعت السيدة تيريزا ماي، المنقذة.

خطاب تيريزا ماي يحمل دائماً تهديداً مزدوجاً لكلا الطرفين، في بروكسل تهدد زعماء الاتحاد الأوروبي، بأنها إذا لم تحصل على مزيد من التنازلات، فسيكون خروج بريطانيا من غير اتفاق، وفي البرلمان البريطاني، تهدد حزب المحافظين، بأن رفض اتفاق الخروج، وهو أفضل اتفاق ممكن، سيُدخل البلاد في فوضى اقتصادية، وأن إعادة الاستفتاء على الخروج، هو كسر صريح لديمقراطية الشعب البريطاني الذي قال كلمته بالخروج منذ سنتين.
  
تهديد تيريزا ماي للاتحاد الأوروبي، مفصول تماماً عن رسائل الإذلال والإهانة، الموجهة ببرود من زعماء الاتحاد الأوروبي إلى السيدة تيريزا ماي، وبالتالي إلى بريطانيا العظمى.

لا مزيد من المفاوضات على اتفاق الخروج. موعد الخروج النهائي 29 آذار (مارس) 2019.

لبريطانيا حرية الخروج دون إبرام اتفاق. كنا نريد المُساعَدة لكن كيف؟ نحن نحترم السيدة تيريزا ماي أكثر من البرلمان البريطاني. تكرر تيريزا ماي طلب التنازلات، وكأن الإهانات الباردة التي تنفذ في العظام، لا تعنيها في شيء.

تخترع الصحافة البريطانية والأمريكية، لحفظ ماء وجه السيدة تيريزا ماي، صفة القتال.

السيدة تيريزا ماي تقاتل من أجل اتفاقها، السيدة تيريزا ماي تنجو ببسالة في قتال سحب الثقة منها، شجاعة السيدة تيريزا ماي في الدفاع عن اتفاقها تدعو للإعجاب. عزيمة لا تلين من السيدة تيريزا ماي لإتمام اتفاقها.

يُصوت مجلس العموم البريطاني على سحب الثقة من رئيسة الوزراء، لكن السيدة تيريزا ماي تفوز بتأييد 200 صوت مقابل رفض 117 صوتاً. لم تكن النتيجة تُناسب الزبد المتطاير غضباً من أفواه حزب المحافظين.

هل رضخ حزب المحافظين لتهديد تيريزا ماي؟ أم أن حزب المحافظين في الباطن، يشتري مع السيدة تيريزا ماي، الوقت؟ شراء الوقت ربما هو سياسة بريطانيا، سياسة متفَق عليها ضمناً، للهروب من دفع فاتورة الطلاق. كلما كان صوت الشجار عالياً، أمام الاتحاد الأوروبي، كلما كان أفضل.

بعض الصحف البريطانية وصفتْ سياسة تيريزا ماي، أو سياسة البطة العرجاء، بسياسة حافة الهاوية.

قال وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت، إن المملكة المتحدة ستزدهر إذا انسحبت من الاتحاد الأوروبي دون إبرام اتفاق، وأن بريطانيا العظمى واجهت تحديات أكبر بكثير في تاريخها. أخيراً قيلت كلمات حقيقية بعيداً عن المماطلة والعبث والغموض.

بالفعل تاريخ بريطانيا العظمى، هو تاريخ استعمار، تاريخ نهب موارد وثروات، تاريخ صناعة حروب أهلية، تاريخ امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. السؤال الآن هو هل ما زالتْ بريطانيا العظمى بتلك القوة؟

كلمات وزير الخارجية البريطاني، رسالة واضحة للاتحاد الأوروبي، لن تدفع بريطانيا ثمن خروجها. لا اعتبار للقوانين والعقوبات والمعاهدات. ولتكن القوة الفعلية، هي الحكم بيننا. الكرة الآن في ملعب الاتحاد الأوروبي، وبشكل كبير في ملعب ألمانيا، أغنى دول الاتحاد، وهي التي تتحمل الجزء الأكبر من خسائر "بريكست".

يُعول الاتحاد الأوروبي على قدرته في عزل بريطانيا اقتصادياً، في حالة خروجها دون إبرام اتفاق. وإلى الآن لا يُصعد الاتحاد الأوروبي من كلماته، فلم يستخدم بعد ضد بريطانيا كلمة "العقوبات".

الحقيقة أيضاً أن الاتحاد الأوروبي يشك في قدرته على عزل بريطانيا اقتصادياً، كما لا تعرف بريطانيا قدرة ماكينة قوتها العتيقة التي علاها الصدأ، هل تحتاج تلك الماكينة فقط إلى تزييت وتشحيم حتى تعمل تروسها كما كانت تعمل في السابق؟

في برنامج التوك شو الهوليوودي يقول الممثل مات ديمون في دور رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون، للممثلة كيت ماكينون في دور تيريزا ماي: تعرفين ما هو المضحك؟ الناس يكرهونني، لكنهم يكرهونك أكثر.