الرئيس  شي جين بينغ بين الزعيمين الصينين ماو سي تونغ ودنغ سياو بينغ (أرشيف)
الرئيس شي جين بينغ بين الزعيمين الصينين ماو سي تونغ ودنغ سياو بينغ (أرشيف)
الأربعاء 19 ديسمبر 2018 / 20:23

صوت الصين المنخفض!

الصين بلد مفاجئ ومحير حقاً. لكن أحد أكثر الأشياء الصينية إثارةً للحيرة والمفاجأة ذلك الفارق بين الصوت والفعل. العربي مرتفع الصوت والنبرة وضئيل الفعالية، يبدو السلوك الصيني هذا أمراً مستغلقاً تماماً.

هذا التفاوت الضخم بين إنجاز الحدّ الأقصى وتعبير الحدّ الأدنى نجده في تجارب أخرى متفاوتة: فمشروع "طريق الحرير" الهيوليّ يُنسج بدأب وبعلاقات واتّصالات قريبة وبعيدة مصحوباً بكلام، من صنف الاحتفال بالنفس، هو أقلّ من قليل

قبل أيام قليلة، احتفل الرئيس الصيني شي جي نبينغ بمرور أربعة عقود على بداية التحول الاقتصادي الكبير الذي باشره الزعيم الراحل دينغ شياو بينغ في 1978، والذي عُرف بنهج "الإصلاح والانفتاح".

هذه السياسة التي قطعت مع السياسات الماوية والشيوعية القديمة، لم تؤد إلى شتم ماو تسي تونغ، ونبش قبره، فهو لا يزال يُعامل بوصفه الأب المؤسس للأمة والشعب، كما لم تفض إلى لعن الشيوعية التي لا تزال السلطة الصينية تنبثق من حزبها الأوحد وتزعم اعتناق إيديولوجيتها.

أهم من ذلك أن النهج الذي دشنه شياو بنغ، وقاد إلى اعتماد الرأسمالية، إنما تسبب بانتقال مئات ملايين البشر من الفقر، المدقع في حالات كثيرة، إلى البحبوحة، بل في حالات عديدة، إلى الغنى، والغنى الفاحش. بيد أن هذه الملحمة الصينية الكبرى تبقى أكبر كثيراً من التمجيد الذي حظيت وتحظى به.

هذا التفاوت الضخم بين إنجاز الحد الأقصى وتعبير الحد الأدنى نجده في تجارب أخرى متفاوتة: فمشروع "طريق الحرير" الهيولي يُنسج بدأب وبعلاقات واتصالات قريبة وبعيدة مصحوباً بكلام، من صنف الاحتفال بالنفس، هو أقل من قليل.

وفي مقابل التهدبدات المتواصلة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، أكان في ما يتصل بالتجارة أو بالسياسة والحرب، يرد المسؤولون الصينيون بما قل ودل، كما يوحون دوماً بالرغبة في الوصول إلى تسويات عادلة ومعقولة مع واشنطن. وأخيراً، وبمناسبة الاحتفال بمرور العقود الأربعة على "الإصلاح والانفتاح" تحدث جين بينغ كما يتحدث أي زعيم لدولة متوسطة: رفض، بطبيعة الحال، أن يكون بلده بلداً يتلقى الأوامر من آخرين، إلا أنه، في الوقت نفسه، ضمنَ بما يشبه التعهد، ألا تحاول الصين نهائياً وبالمطلق ممارسة الهيمنة على سواها.

وربما كان في هذا النهج نوع من الاتعاظ المتأخر بالصراخ الذي عُرفت به "الثورة الثقافية البروليتارية العظمى"، أو نوع من الرد على عموم الحقبة الماوية التي اشتُهرت بشعاراتها الصاخبة وشعائريتها المفرطة.

لكن استغراب السلوك الصيني يذهب أبعد فابعد حين نتذكر أن الأمور لا تسير بتاتاً على النحو الذي يوحي به تواضع الكلام. فالسلطة الصينية متطرفة جداً في قمعها لحقوق الإنسان وفي تضييقها على مساحات التعبير، وهي أيضاً متطرفة في تعاملها الإقصائي مع المسلمين في مقاطعة كسينجيانغ في غرب البلاد، وهذا فضلاً عن نهجها العسكري ومزاعمها القومية بالنسبة إلى بحر الصين الجنوبي، حيث أن بلداً كاليابان اضطرت حكومته أخيراً إلى المصادقة على خطة دفاعيّة خمسية لتعزيز ترسانتها العسكرية، وهذا يحصل للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي فرضت على اليابان عدم التسلح.

ولم تتكتم طوكيو، في تفسيرها لهذا التطور الجديد، على رده إلى الخوف من "تنامي الحضور العسكري الصيني في المنطقة، إلى جانب النهوض العسكري الروسي".

ولأن الصمت قد يكون، في مرات كثيرة، أبلغ دلالة من الكلام، فإن فهم الصين انطلاقاً من صمتها، قد يتفوق على فهمها انطلاقاً من كلامها. وهذا، مرة أخرى، من خصوصيات تجربة ربما كنا لا نعرف عنها الكثير.