من أجواء الميلاد في الإمارات.(أرشيف)
من أجواء الميلاد في الإمارات.(أرشيف)
الجمعة 21 ديسمبر 2018 / 18:34

من أجل تسامح جوهري

من شبّ على "الاحتساب" ضد المخالفين، والخوض في أعراضهم وأخلاقهم، والتقدم بالشكاوى الرسمية على كل من يخالف مفهومه المقدّس للعادات والتقاليد، لا يمكن أن "يشيب" فجأة على نسخة معاصرة من الدالاي لاما، لينثر الصلوات والبركات على الجميع

عجائب الرأسمالية لا تنتهي حقاً، فلم تمر أيام منذ إعلان قيادتنا الإماراتية الرشيدة اختيار 2019 عاماً للتسامح حتى شاهدت إعلاناً لما وُصف بأنه برنامج متكامل لتعليم مفاهيم التسامح والتعايش بين الحضارات!

فالطالب يشترك بسعر رمزي جداً لا يتعدى 2600 درهم - آه والله، زي ما بقولك كده!-، ثم يخرج بشهادة تدل على كونه "متدرباً ومتخصصاً قادراً على إشاعة التسامح والتعايش بين المجتمعات".

وبالطبع، لا أتصوّر أن مثل هذه الحيلة "البايخة" ستنطلي على أي أحد منا. إلا تلك القلة المثيرة للشفقة التي ترغب في إضافة أي شيء على الإطلاق إلى سيرها المهنية، وإن كانت دورة تدريبية في لف الدولمة.

كل ما في الأمر هو أني أشعر بأني واقعة تحت تأثير "الديجافو"، وبأن هذا المشهد الهزلي قد مرّ أمام ناظريّ من قبل.

إنها تلك المهارة التي يمتلكها بعض خبثاؤنا في "اختطاف" المفاهيم دون أن يميّز أحد أنياب الذئاب التي يخفونها تحت أصواف الحملان الوديعة. إنهم يأخذون منا "مفهوماً خاماً" قبل أن يتسنى لنا تقدير ثروته، ويعيدون تصديره إلينا في براميل اشتراطاتهم ورؤياهم المحدودة.

فمن سيقفون أمامك على المنصات، ويشبكون أصابعهم تعبيراً عن الحكمة والعُمق، يعلمون تمام العلم أن المدرسة الحقيقية للتسامح هي المصليات التي تقف فيها إلى جانب مسلمين من كل المذاهب والطرق، فلا تكترث لطقوسهم وتمتماتهم. وهي أزقة "مينا بازار" في دبي، حيث تصافح الهندوسي والبوذي والسيخي، فلا سلاح هنا سوى الألسن المتجادلة على الأسعار. وهي شجرة الكريسماس العملاقة التي يقف تحت ظلالها الوارفة الجميع.

ومن سيلقون عليك الخطب العصماء عبر منابر "سناب شات" عن التسامح، ويعبئون لك أعمدتهم بالكلام المكرر عن التعايش بين الحضارات، يعلمون كذلك بأن من شبّ على "الاحتساب" ضد المخالفين، والخوض في أعراضهم وأخلاقهم، والتقدم بالشكاوى الرسمية على كل من يخالف مفهومه المقدّس للعادات والتقاليد، لا يمكن أن "يشيب" فجأة على نسخة معاصرة من الدالاي لاما، لينثر الصلوات والبركات على الجميع.

ولكن إذا تركوا لك الحبل على الغارب، أعني، لتكتشف التسامح وتفهمه وتجرّبه وتختبره، ولم يستغلوا الفرصة لتعليمك ووعظك وتدريبك واقتيادك ونصحك، فالله وحده أعلم بالتعريف الذي ستبلغه للتسامح. حتى أنك قد تتسامح –والعياذ بالله- مع من لا يرتضي لك حرّاس الفضيلة المتلونين التسامح معهم.
ألم يسعوا من قبل –مثلا- إلى ركوب موجة تمكين المرأة، والقفز أمام قطار الحقوق والحريات المتسارع؟ فكيف إذا سيتسنى لهم أن يحرصوا على ألا تنال أكثر من الحصة التي يرغبون في تحديدها لها من الوعي والانفتاح والاستقلالية والجرأة والطموح، ودون أن يرتدوا أقنعتهم الحقيقية التي تكشّر في وجه المساواة وتستنكرها؟
في عام التسامح، أرجو أن تتسامح مع قدرتك الفطرية على اكتشاف هذا المفهوم الجميل، وثق بأن الله سيدلك على صراط التعايش المستقيم.