السبت 22 ديسمبر 2018 / 19:57

مزرعة الحيوان

هذه المرة كانت عايدة صبرا المخرجة. يمكن لها أن تكون ممثلة من قليلات في مستواها، يمكن لها أن تكون إيمائية وراقصة وهي الآن مؤلفة للمسرح ومخرجة، أحسنت إدارة ممثلين شابين بدآ من الآن يلمعان على الخشبة. الموضوع أو المحور الذي يدور عليه العرض على خشبة مسرح مونو هو الطقس، موضوع مجرد وعام لكنه يستدعي اليه شتى المواضيع، يلف حولها ويخرج منها ويعاود الرجوع اليها، قبل أن يتبدّد ويتحوّل الى فراغ. ليس أفضل من الطقس ليكون شبكة لكل هذه الموضوعات وليس أفضل منه، ليتحول الى فراغ، وليس أفضل منه ليكشف ويضيء ويُعتِم ويخفي. هكذا تبدو مسرحية عايدة صبرا وكأنها تتردد بين الكشف والتغطية، بين الموضوع واللاموضوع، بين الدراما والكوميديا، بين القطع والوصل، بين العنف والسلم والهستيريا والحكمة، وبطبيعة الحال يستدعي طقس بيروت بيروت نفسها، وربما يستدعي من بعيد أو قريب النزاع اللبناني أو العنف اللبناني فيشير الى الحرب الأهلية والصراع المستمر.

واذا تذكرنا الانقسام اللبناني الذي قلّما يؤدي الى شيء وقلّما يفضي الى خلاصة او نتيجة، حقّ لنا أن نجد فيه قرباً من الطقس الذي يحضر ويتبدّد دون ما نتيجة. ليس في المسرحية اي أمارة سياسية ولا يتلفّظ الممثلان رودريغ سليمان وإيلي نجيم بأي عبارة سياسية لكن المسرحية، التي تبدو وكأنها لا تني تبحث عن موضوعها، والتي تتلبس مع ذلك أكثر من موضوع، وتوحي أنها تتوزع بين المواضيع. إننا أمام نصّ وإداء متقنين لكنهما ليسا خطابيين ولا جماهيريين. إنهما يخوضان بحزم وحرص وتفنن ما نظلّ نشعر بصعوبته وبنيانه وتجنبّه كل ابتذال وشعبوية، بحيث أننا نشعر بجزمة سليمان على جسد إيلي نجيم في واحدة من نوبات العنف الحر. إيلي نجيم المصور الذي لا يجد عملاً وليس أمامه سوى الطقس الذي لا نعرف لماذا دعي طقس بيروت، لو لم يكن لبيروت صلة به ولو لا أنه تقلبها وترددها ووصولها الى الهباء. مع ذلك لا تقع العاصفة ولا يثور الجو ولا يتغير الطقس. الممثلان يتغنيان بطقس بيروت وهما الإثنان مربي حيوانات لا نراها الا في عنفه وهستيرياه "رودريغ سليمان" والثاني مصور عاطل عن العمل يجد، كل ساعة، الوقت ليتغنى بجمال الطقس على الطريقة اللبنانية، هناك بالطبع لحظات عنف حر سليمان بطله ونجيم ضحيته.

 لكن المرض النفسي الذي يدور الحديث عنه ليس هو الأساس فنحن لسنا في مصح. إننا في طقس حر ولعب في طقس حر. المصور يقفز ويكثر من الحركة ويستريح على الخشبة لكن سليمان الهستيري مربي الحيوانات ليس في مصح. إنهما الاثنان في يوم جميل ، لكن الحيوانات التي يربيها سليمان تسكنه، إنه يتحول الى أحدها في لحظات ما ويتصرف كأنه أحدها. العنف الذي يعاوده من حين الى اخر هو ما يجعله وحشاً أو يقلبه الى وحش.

طقس بيروت لا نقل إنه طقس لبنان الصافي. إنه صباح ذو طقس صاف لكن حيوانات سليمان ما زالت وراءه، مثلها مثل امرأته التي تطارده بالموبايل. طقس لعوب يتغنى به الاثنان لكنهما يغيّران ملامحه، يسقطان قمره "عبارة عن دائرة ملصوقة وغيمات تقع وتطلع". أليس في ذلك ما يعود بنا الى الغناء اللبناني "لبنان يا أخضر حلو عالأرض تاني ما إلو". إنه لطيف لكن أهله على استعداد ليصيروا وحوشاً تقول عايدة أنها اقتبست النص من مسرحية غربية والاقتباس لم يطل الا العنوان والفكرة لكن المسرحية لا تنسى لبنان وبيروت. لا تنسى الوحش اللبناني، والحرب التي لا تزال تدور ولو بالألفاظ. لبنان الأخضر الحلو هو أيضاً مزرعة حيوانات، هو أيضاً مطاردة الحيوان للسكان، بل هو الوحش الذي يعيش في داخل السكان.

هكذا نصل الى السياسة بدون أن نصل اليها، وهكذا تتصل المسرحية بلبنان بل بكل الوطن العربي بدون أن يكون هذا معلناً وصريحاً. طقس بيروت هو كل ما يملكه لبنان وهو لا يكفي ليغطي حرباً كاملة ووحشية على وشك انفجار. هكذا نصل الى مسرحية هي أولاً مسرح وبناء مسرحي واحتراف وتأليف مسرحيان. مسرحية لبنانية لكنها مسرح قبل أن تكون لبنانية وقبل أن تشير، ولو من بعيد الى موضوع لبناني.