الرئيس الروسي فلاديمير بوتين(أرشيف)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين(أرشيف)
الإثنين 24 ديسمبر 2018 / 19:21

في بلادنا روس

يعود الروس إلى المنطقة الآن بلا منافسين، وبلا أثمان سياسية، ولا نملك غير الانتظار لتحديد ملامح العودة الروسية وتقدير نتائجها في حسابات الربح والخسارة

بلا معسكر اشتراكي ولا حرب باردة ولا أحزاب شيوعية عربية تعتمد توقيت موسكو في إعلان مواقفها تعود روسيا إلى المنطقة على سجادة سياسية حمراء مفروشة على تراب عربي محروق.

صحيح أن عودة الروس تبدو بطيئة وحذرة، لكنها تتحقق على الأرض بلا ضجيج كبير، وبلا شعارات ضد الإمبريالية العالمية وبلا توظيف للمناضلين المكلفين بالتنظير ضد الاستعمار الغربي.

صحيح أيضاً أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي، لكن موسكو لا تزال عاصمة للإمبراطورية، وإن جنحت إلى التغيير فهو تغيير شكلي فقط يوجب على الزعيم أن يلعب الجودو والهوكي وأن يجيد العزف على البيانو وأن يكتب الشعر أحياناً وأن يقرأ كثيراً، لكنه، وهو يعيد بناء البلاد يستذكر تاريخها ويحيي سير عظماء سبقوه إلى كرسي الكرملين... ستالين، بريجينيف، أندروبوف، ليشطب من الذاكرة الروسية مرحلتي الانهيار في زمن غورباتشوف ويلتسين.

روسيا فلاديمير بوتين تستعيد دورها الذي كان مغيباً بعد الانهيار الكبير وتعود بقوة إلى قلب المعادلة الدولية عبر انخراطها في مشاريع الحرب والسلام في بلادنا المشتعلة بالصراع، بعد أن ساد انطباع خاطئ لسنوات طويلة بأن الروس لم يعودوا معنيين بالمنطقة وأن موسكو لا تفكر بدور عالمي، وتسعى إلى تجنب الحرب الباردة، وتختصر دورها في ترميم الخراب الذي ألحقته البيروسترويكا بروسيا الاتحادية.

ويبدو أن الفرصة المتاحة للعودة الروسية تبدو الآن متاحة وسهلة وغير مسبوقة لعوامل كثيرة منها أن الولايات المتحدة تنهج في عهد حكم ترامب سياسة انعزالية تبعدها عن مناطق التوتر والصراع، وتعبر عن نفسها بقرارات الانسحاب الفعلي من هذه المناطق مثلما حدث في سوريا وسيحدث في أفغانستان، ومثلما حدث في العراق قبل زمن.

في الوقت نفسه تبدو الصين منهمكة تماماً في حروبها التجارية مع الولايات المتحدة وأوروبا، وليست معنية بما يجري خارج حدودها إلا بمقدار ما ينعكس على الصادرات الصينية وسعر صرف اليوان.

أما القوة الكونية الثالثة وهي الاتحاد الأوروبي فإنها منشغلة أيضاً بملفاتها الداخلية سواء على مستوى الاتحاد الذي تخرج منه بريطانيا، لتخرج أيضاً تيريزا ماي من المشهد السياسي، مثلما تخرج سيدة ألمانيا القوية المستشارة أنغيلا ميركل إلى الظل بعد أن كانت في واجهة الحدث الدولي فترة طويلة، وكذلك فإن السترات الفرنسية الصفراء أجبرت الرئيس إيمانويل ماكرون على التراجع والاعتراف بوجود مشكلات حقيقية في البلاد تتطلب التركيز عليها لحلها بدلاً من البحث عن دور فرنسي وراء البحار.

وفي بلادنا أيضاً يتراجع الرفض للدور الروسي بعد أن تراجع خصوم روسيا، وبعد أن هزم الإسلام السياسي وضعف كثيراً في تجربة الربيع العربي البائس، وبعد أن تقدم الخوف من الأصوليين على الخشية من نقيضهم.

يعود الروس إلى المنطقة الآن عبر البوابة السورية، وهم يملأون الفراغ الذي يتركه الانسحاب الأمريكي. وسينتقلون بعد ذلك إلى خلق وجود روسي فاعل في العراق مستفيدين من حاجة البلاد إلى هذا الدور في ظل المشكلات الكبيرة التي خلقها التقاسم الوظيفي بين الولايات المتحدة وإيران المتشاركتين في إدارة العراق وقيادته إلى المجهول.

في لحظة لم تعد بعيدة سنشهد أيضاً دوراً روسيا أكثر حيوية في ليبيا التي تئن تحت حكم البطش الميليشياوي الأصولي وتتمزق بين القبائل المتناحرة برعايات أمريكية وأوروبية واضحة.

منذ العام 2006 عندما كنت أعمل في موسكو أدركت أن الروس يحنون إلى العودة وأن عيونهم ترنو إلى دمشق وبغداد وطرابلس والجزائر، وربما يمكن القول إن هذه العواصم تقع الآن في مرمى الاستهداف السياسي الروسي.

يعود الروس إلى المنطقة الآن بلا منافسين، وبلا أثمان سياسية، ولا نملك غير الانتظار لتحديد ملامح العودة الروسية وتقدير نتائجها في حسابات الربح والخسارة.