الفيلسوف اليوناني أرسطو.(أرشيف)
الفيلسوف اليوناني أرسطو.(أرشيف)
الأربعاء 26 ديسمبر 2018 / 20:08

السياسة الأرسطية

الديموقراطية في عصرنا الما بعد حداثي، انفلت زمامها، وها هي تعود بحنين إلى طفولتها، كما يعود إنسان تقدم في العمر، إلى طفولته

يبدأ كتاب "السياسة" لأرسطو، بالإشارة إلى أهمية الدولة، فهي من أعلى أنواع الجماعات، وتهدف إلى أسمى الغايات، والأسرة تأتي قبل الدولة في الترتيب الزمني، وهي قائمة على العلاقة الرئيسية بين الرجل والمرأة. وإذا اجتمع عدد من الأسرات، تكونتْ القرية، ومن جملة قرى، تتكون الدولة. يؤكد برتراند راسل في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية"، على أن الأسرة تأتي في الزمن قبل الدولة، إلا أن الدولة سابقة على الأسرة في الفكر، بل هي سابقة لوجود الفرد نفسه.

الشيء المثير أن الفرد في المجتمع المدني، يُمارس حريته الطليقة، وكأنَّ وجوده غير مشروط بوجود الدولة، بل إن وجوده كفرد حر، مشروط بزوال الدولة. دانيال دي لويس، أو بيل الجزَّار، في فيلم "عصابات نيويورك" 2002، للمخرج مارتن سكورسيزي، يضرب ظهر مُرشَّح الانتخابات، الأيرلندي الأصل، بساطور، ويقول له ساخراً: هذا هو صوت الأقلية.

بيل الجزَّار، الفرد الطليق، يرشق نصل صوته في صندوق الانتخابات، في صندوق ظهر الإيرلندي. الشق الذي أحدثه الساطور في ظهر الأيرلندي، يُحاكي شق صندوق الانتخابات، الذي نُسقط فيه الصوت الانتخابي. بيل يُمارس حريته، يُمارس وجوده، يُمارس في النهاية الديموقراطية. المجتمع المدني، أشبه بكوميونة عولمة كونية، تُفرِّخ كثيرين مثل بيل الجزَّار، تُفرِّخ أفراداً، وجودهم يسبق وجود الدولة.

ومع ذلك ينتقد أرسطو "مدينة أفلاطون"، أو "جمهورية أفلاطون"، في نقطة غاية في الإبداع، كما يرى برتراند راسل، وهي أن أفلاطون أفاض على الدولة وحدها، أكثر مما ينبغي، حتى كاد أن يحولها إلى فرد واحد، سيما وأن أفلاطون يكره الأسرة، وتصوَّر هدمها عبر تربية الأبناء بشكل شمولي، بعيداً عن الآباء البيولوجيين، حتى يحمل كل رجل، عاطفةً، نصف شخصية، نحو الأبناء جميعاً، وكذلك يحمل الأبناء جميعاً، نصف عاطفة، نحو الآباء العموميين.

يقول عبد الرحمن بدوي في "موسوعة الفلسفة"، إن نظرية أرسطو في الدولة لا تتصل بالفلسفة اتصالاً كبيراً، وإنما هي أقرب ما تكون إلى القانون. هناك اختلاف بين مذهب أرسطو في الدولة، ومذهب أفلاطون، فبينما منهج أفلاطون ينظر إلى الدولة كما يجب أن تكون، فإن منهج أرسطو يهتم بنشأة الدساتير، ويدرسها باعتبارها نظماً ممكنة للحكم.

يضع أرسطو العنصر الأخلاقي كمُحدد نهائي، وهام، في الحكم على الدولة، بأنها دولة جيدة أم دولة سيئة. الحقيقة أن الدساتير الحديثة مثل القديمة، تقوم نصوصها في العدالة والمساواة، على العنصر الأخلاقي، لكن في الغالب لا تتحقق الأخلاق على أرض الواقع، بسبب تعقيد الرغبات الإنسانية، فالأخلاق المكيافيلية، هي أيضاً أخلاق سياسية، وهي ضرورية أحياناً للدولة، ومُعْتَمَدَة، رغم سمعتها السيئة.

السبب الرئيسي عند أرسطو في النزاع بين الأوليغاركيين والديموقراطيين، هو أن الديموقراطية تنشأ من اعتقاد، بأنه إذا تساوى الناس في حرياتهم، وجب أن يتساووا في شتى النواحي، كما تنشأ الأوليغاركية من اعتقاد، أن مَنْ يفوق غيره في جمع المال، له الحق في مطالب أخرى لا تنتهي. للديموقراطية والأوليغاركية، نوع واحد من العدالة، وهو عدم المُبَالَغَة.
  
بالطبع عدم المُبَالَغَة ليس بالطلب البسيط، فالديموقراطية في عصرنا الما بعد حداثي، انفلت زمامها، وها هي تعود بحنين إلى طفولتها، كما يعود إنسان تقدم في العمر، إلى طفولته. طفولة الديموقراطية اليونانية مع الأسف، كانت غوغائية، وكانت الغوغائية هي معنى الديموقراطية، حكم الشعب لنفسه، أي حكم الفوضى.
وبالمثل الأوليغاركية أحدثتْ اختلالاً شديداً في توزيع الثروات، وحطمتْ قوانين الدول، ووصل إحراج دولة كبيرة مثل فرنسا، إلى اضطرار رئيسها إيمانويل ماكرون، رئيس الأغنياء كما يُقال، إلى إعلان أنه سيُحصِّل الضرائب من آبل وفيس بوك وأمازون وغيرها، حتى يستطيع سد جوع "السترات الصفراء". الكوميديا السوداء أن إيمانويل ماكرون أعلن أيضاً، أنه لن يأخذ رأي الاتحاد الأوروبي في تحصيل الضرائب من عمالقة الأوليغاركية.

يذكر أرسطو أن الفيلسوف طاليس حين عيَّروه بفقره، اشترى كل معاصر الزيتون بالأقساط، فتمكن بهذا من أن يفرض أجوراً كما يشاء لاستعمالها، وإنما فعل ذلك ليدلل على أن الفلاسفة في وسعهم أن يكونوا أغنياء، وأنهم إذا ظلوا على فقرهم، فما ذلك إلا لأن لديهم ما يُشغل تفكيرهم، وهو أهم من الثراء.

حين يسمع الأوليغاركي حكاية أرسطو الطريفة عن الفيلسوف طاليس، يشعر بالطمأنينة، ويقول في نفسه: الرومانسية الدونكيشوتية، لا خوف علينا من جماعة المثقفين، ويُكمل حديثه مع النفس، بصوت الممثل عادل إمام في مسرحية "الواد سيد الشغَّال": ناس طيبين قوي.