المصور الصحفي عبد الرزاق زُرقي الذي أضرم النار في نفسه في تونس.(أرشيف)
المصور الصحفي عبد الرزاق زُرقي الذي أضرم النار في نفسه في تونس.(أرشيف)
الخميس 27 ديسمبر 2018 / 20:03

حول حصانة النسخة الأولى

من أجل أبناء القصرين الذين لا يملكون مورد رزق، اليوم سأقوم بثورة، سأضرم النار فينفسي

تتدافع الأحداث الكبيرة على المنطقة، مثل رياح قوية كانت تنتظر خلف الأبواب، فيما يشبه نهايات متلاحقة لأفكار استنفذها أصحابها أو، وهذا أدق، تتهيأ للدخول في ممرات جديدة يصعب التنبؤ بنهاياتها، ولكنها تستمد طاقتها من سبع سنوات عجاف طويلة، من مرويات رسخت في نسختها الأولى، واكتسبت قداسة لم يعد ممكناً إعادة تدويرها أو إضافة حقائق قد تبّهت قليلا من حصانتها، لو اعتبرنا أن صاحب عربة الخضار التونسي محمد بوعزيزي، هو الذي أطلق الصافرة في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2011.

الذي يستدعي تلك الحادثة هو أنها تتكرر الآن في تونس، بوعي مختلف وأدوات مختلفة، حيث أضرم المصور الصحفي "عبد الرزاق زُرقي" النار في نفسه مساء الإثنين الماضي في ولاية "القصرين"، وكان الزرقي قد نشر قبل وفاته مقطع فيديو قال فيه: "من أجل أبناء القصرين الذين لا يملكون مورد رزق، اليوم سأقوم بثورة، سأضرم النار في نفسي".

ليست واضحة بعد الأسباب التي دفعت مصوراً صحافياً للإقدام على حرق نفسه بهذه الطريقة، لم تتجمع الرواية بعد، ولكن الحادث دفع أعداداً من المحتجين إلى قلب المدينة.

"بوعزيزي" كان أقل دراية بدوره وقدرته على التأثير، كانت غاياته شخصية تماماً وبسيطة تتعلق بحياته اليومية وأسباب عيشه، لعل هذا مرد قوتها وتأثيرها.

في مكان من المشهد سنجد دوراً للشرطية التونسية "فادية حمدي" التي اتهمت أنها صفعت "صاحب العربة" وقالت له بالفرنسية "ارحل"، وهي الترجمة الأمينة التي تحولت إلى شعار سيرفعه التونسيون لإسقاط نظام "زين العابدين"، وسيلتقطه المصريون في "ميدان التحرير" في 25 يناير( كانون الثاني) 2012 ، قبل أن يصل، الشعار، إلى بنغازي، ثم إلى عرب آسيا في دمشق وصنعاء.

"صاحب عربة الخضار" في "سيدي بوزيد" والشرطية شكلا ثنائياً جذاباً للتحليل والمجاز أيضاً، محمد الذي أحرق نفسه في بلدته، لم يذهب إلى العاصمة حيث يمكن الحصول على كاميرات وسيارة إسعاف، ومستشفى أفضل من تلك العيادات والمستوصفات البائسة التي يضعونها في الأطراف الفقيرة، بعد أن استنفذه الغضب واليأس والقهر، اقترح، دون أن يقصد على الإطلاق، تغيير الإقليم.

الشرطية التي لا تبدو في المشهد أكثر من امرأة شقت طريقها بقوة وشجاعة في مجتمع يتمتع بقسوة ذكورية، رغم توفر قوانين تخفف من تلك القسوة، لم تكن أكثر من "عون" أمن تحمل ثقافة الأجهزة، الثقافة التي تتلخص في قمع المواطن وتنفيذ قوانين باردة لم تفكر بمجادلتها يوماً.

ليس من السهل أن تكون "شرطية" في هذا المحيط، عليها أن تتمتع بقسوة مضاعفة ترمم فكرة أنها امرأة، بما فيها الاستعانة بذكور آخرين لتنفيذ هذه القسوة، مثل الشبح الذي يظهر تحت اسم "صابر" في الروايات التي تسرد حادثة السوق تلك والذي تولى مهمة الاعتداء الجسدي كمساعد مخلص، وقد استطاعت أن تفعل ذلك.

الآن يمكن النظر بهدوء في الرواية المؤلمة التي أحيط بها "الموت الشجاع لصاحب العربة" من "سيدي بوزيد". الرواية التي تدور حول أن "امرأة" هي التي صفعت محمد في ذلك الضحى. يتوقف الراوي، وهو هنا شقيق محمد، مبرراً غضب محمد من أن امرأة، هي التي أهانته.

الآن يبدو الأمر غريباً، لم تتوقف الرواية عند الاعتداء الجسدي المتواصل للذكور الأربعة، بما فيهم الشبح "صابر"، ولكنها تقف كما لو أنها اصطدمت بجدار عندما تصل الى "المرأة"، يختفي الذكور الأربعة من المشهد، ويختفي حارس البلدية ويتحول "صابر" إلى ظل باهت لامرأة تصفع رجلاً.

ورغم كل شيء فهي لم توجه تلك "الصفعة"، كما تقول، وكما ظهر عبر محاكمتها فيما بعد.