الممثلة كيم نوفاك في فيلم فيرتيغو 1958 (أرشيف)
الممثلة كيم نوفاك في فيلم فيرتيغو 1958 (أرشيف)
الأربعاء 2 يناير 2019 / 19:01

دوار هيتشكوك

لا تمر معلومة المال غالباً في أفلام هيتشكوك، مرور الكرام، فمهما كان هيتشكوك مشغولاً بدراما نفسية إلى حد ما، يبقى العامل الاقتصادي، راسخاً في الخلفية، وكأنّه الأساس المتين، المانع من الشطط الرومانسي، المجاني. بفضل الزواج

أسرع المخرجين الكبار في الدخول مُباشرةً إلى عالَم فيلمه، هو ألفريد هيتشكوك. في فيلم "فيرتيغو"، أو "دوار" 1958، هناك منذ البداية ثلاث استعارات بصرية، تدعم وتؤكد دراما الفيلم. اللقطات القريبة القوية، لعين الممثلة كيم نوفاك، التي تشعر المُشاهِد بالدوار، وتسريحة شعر كيم على شكل إسطوانة حلوى ملفوفة "سويسرول" إلى الداخل، ومنظور الأكروفوبيا السحيق، أو الخوف من المرتفعات، في عين جيمس ستيوارت.

المحامي السابق، والمحقق الحالي جيمس ستيوارت في دور سكوتي، يفكر في التقاعد عن العمل البوليسي، بسبب سقوط شرطي زميل، حاول أن ينقذ سكوتي أثناء نوبة دواره. يشعر سكوتي بالذنب، ومع ذلك يُجرّب نفسه في أتيليه صديقته ميدج، مصممة الملابس، على النظر من فوق كرسي لا يرتفع عن أرض الغرفة أكثر من متر.

تزوغ نظرة سكوتي بشكل لا إرادي إلى نافذة الأتيليه، ومن وراء النافذة تفغر هوة السقوط إلى أسفل، فاها.

يضطرب سكوتي، ويقترب من فقدان الوعي، ثم يسقط من فوق الكرسي، لتحتضنه ميدج الصديقة، والباقية على حبها لسكوتي.

غيفين إلستر صديق قديم لسكوتي، ويعمل في مجال صناعة السفن، بفضل الزواج. يعرض إلستر على سكوتي، وهو يعرف أن سكوتي في فترة نقاهة بسبب مرضه، مراقبة زوجته، والأمر لا يتعلق بخيانة زوجية، عندما نظر إليه سكوتي، بل بحماية زوجته من شخص ميت.

لا تمر معلومة المال غالباً في أفلام هيتشكوك، مرور الكرام، فمهما كان هيتشكوك مشغولاً بدراما نفسية إلى حد ما، يبقى العامل الاقتصادي راسخاً في الخلفية وكأنه الأساس المتين، المانع من الشطط الرومانسي، المجاني. بفضل الزواج، يعمل غيفين إلستر في مجال صناعة السفن.

يقترح سكوتي على غيفين إلستر أخذ زوجته لطبيب نفسي، إلا أن الزوج يريد أولاً معرفة أين تذهب مادلين في جولاتها المُسرنمة. وبعد ترددٍ يترك سكوتي الباب مفتوحاً، لقبول مهمة مراقبة الزوجة. المراقَبة المختلطة بالإثارة والجريمة، هي باختصار سينما هيتشكوك.

مادلين بطلة هيتشكوك، كما هي العادة في اختيار بطلاته، تحل من على حبل المشنقة. صاروخ من الأناقة والجمال.

يحب هيتشكوك بطلاته، ويُفضل الشقراوات منهن لأسباب تتعلق بالنجاح الجماهيري، ويتفنن في إظهار أنوثتهن. قد يوصف هيتشكوك بالعنصرية، أو بتجاهل البشرة السمراء في أفلامه.

فضيحة هيتشكوك الإنجليزي، ذو الدم البارد الفيكتوري حتى النخاع، لا يحب البشرة السمراء. نسمع بأثر رجعي، صفعة تشارلز ديكنز الرنانة، الكاره للفيكتوريين وعهدهم، على خد ألفريد هيتشكوك الحليق، الربيل، بأوليفر تويست.

لا يتعجل هيتشكوك الرقابة، للوصول إلى هدف درامي، فليس معنى احترام هيتشكوك للحقائق الاقتصادية، احترامه للمال، عدم استعذابه للغموض المنزه عن المال، والبقاء في ساحته مدة من الوقت.

الغموض عند هيتشكوك، مشروط بوعد الوضوح بعد حين، بوعد الواقعية، بوعد تدمير الرومانسية.

سكوتي يغرق في متابعة جولات مادلين المسرنمة. تشتري الزوجة باقة ورود، وتذهب إلى مقبرة كارلوتا فالديز، ثم تذهب إلى متحفٍ للفن الحديث، والذي به لوحة لوالدة جدتها، كارلوتا فالديز. في اللوحة تحمل كارلوتا فالديز، باقة ورود بين يديها.

والجدة البعيدة لها نفس لفّة "السويسرول"، المدوخة في شعرها، والتي تصنعها مادلين في شعرها أيضاً. الجدة البعيدة لمادلين، ماتت منتحرة في السادسة والعشرين من عمرها، وهو عمر مادلين الآن.

كان الجنون مصير جدة مادلين البعيدة، وهذا الجنون يطلب تكراراً من الحفيدة مادلين. تكرار المصير، عريق في الدراما الكلاسيكية، ومن الصعب رفضه. هيتشكوك يعرف منابع الدراما.

من جانب آخر يعرف إلستر أيضاً، أن الأكروفوبيا تمنع سكوتي من إنقاذ مادلين زوجته، إذا كان الانتحار من مكان شاهق. البتع سكوتي قبل ذلك، انتحاراً زائفاً لمادلين في مياه خليج سان فرانسيسكو، وكان شرارة الحب.

المُشاهِد أصبح لعبة لهيتشكوك. هل يسبق بحدسه نوايا هيتشكوك؟ أم يبقى المشاهِد الخام الغشيم، الذي لا يفهم الإشارات على طول طريق الفيلم، ولما كان طريق أي فيلم، طريقاً سريعاً، طريقاً للزمن، طريق الـ "هاي واي"، فمن الممتع لمخرج كبير، مثل هيتشكوك أن يختبر فطنة المُشاهِد طوال الفيلم.

تقود مادلين المخادِعة، سكوتي المسكين، إلى برج الكنيسة. تعرف مادلين أن سكوتي لن يستطيع إنقاذها هذه المرة، بسبب الأكروفوبيا. يتألق هيتشكوك سينمائياً في تضخيم استطالة هوة السقوط، بينما يحاول سكوتي اللحاق بمادلين.

بئر سلم برج الكنيسة، وهو ينسحق إلى أسفل، في عين سكوتي، علامة من علامات السينما. سكوتي مُكبل بفوبياه، ومادلين تقفز من برج الكنيسة.

تقر عدالة المحكمة بأن الزوج إلستر كان يشك في الحالة العقلية لزوجته، ولهذا كلف سكوتي بمراقَبة مادلين، لدفع الخطر عنها، وكان على استعداد أيضاً، لأخذ زوجته إلى مصحة نفسية بعد استفسار، وتفسير من سكوتي، عن سلوك زوجته الغامض أحياناً، ولم يكن الزوج على علم بخوف سكوتي من الأماكن المرتفعة.

يُصاب سكوتي باكتئاب حاد. يمر الزمن. يأخذ هيتشكوك نفَسه ليرد للمشاهِد، الجزء الثاني من دراما الفيلم. جودي شبيهة مادلين، يراها سكوتي بالصدفة، والصدفة قدر مشؤوم لكل دراما لا بد منها، ولهذا على هيتشكوك، أن يُشيد البناء الكمالة.

جودي تنفي أمام تحقيق سكوتي أنها مادلين، وتُظهر له رخصة قيادتها، ومحل إقامتها. لا يبدو على سكوتي، إصرار بأن جودي هي مادلين، بل يكتفي بأنها شبيهتها، ولا يطلب من جودي سوى الحديث معها.

تتذكر جودي مشهد برج الكنيسة وفيه هذه المرة، الزوج إلستر، وبين يديه زوجته الحقيقية التي يسقطها من البرج، بمجرد صعود مادلين إلى قمة البرج.

سكوتي يعمل على تغيير ملابس جودي، وتغيير تسريحة شعرها، وبهذا تعود مادلين إلى الحياة مرة أخرى. ولأن جودي أحبت سكوتي منذ اللحظة التي كانت فيها مادلين، تقبل بتغيير هيئتها.

حس هيتشكوك الفائق، أنه لا مناوَرَة كبيرة مع المشاهِد في الثلث الأخير من الفيلم، بل الوضوح الناصع. تكفي فقط مفاجأة أخيرة، ترد التوازن الكلاسيكي إلى نصابه.

يكتشف سكوتي عقداً كان لجدة مادلين البعيدة، في رقبة جودي. يستنتج سكوتي أن العقد وصل إلى جودي عن طريق الزوج إلستر. يأخد سكوتى حبيبته جودي في رحلةٍ إلى مسرح الجريمة، إلى برج الكنيسة الشاهق، ويدفعها إلى صعود البرج ويستبسل في الصعود وراءها، ليتجاوز خوفه من الأماكن المرتفعة.

تعترف جودي في قمة البرج بأنها كانت الأداة، وسكوتي كان الضحية. وتعترف أيضاً بأنها كانت تستطيع الهرب من سكوتي لكنها أحبته. وفي اللحظة التي ربما غفر فيها سكوتي لجودي، تصعد فجأةً إلى برج الكنيسة راهبة، فترتعب جودي، وترتد إلى الوراء فتسقط من البرج. السقوط هو مفاجأة هيتشكوك الأخيرة.