يهود يمنيون في شمال صنعاء.(أرشيف)
يهود يمنيون في شمال صنعاء.(أرشيف)
الأحد 6 يناير 2019 / 20:01

أكثر من يفنائيلي واحد في هذا التاريخ

في تاريخ كل هجرة لليهود العرب سبقت قيام الدولة الإسرائيلية أو وقعت بعدها، الكثير من الزوايا التي لم تعد مُعتمة، وهناك ما لا يحصى من الكتب والوثائق والشهادات في هذا الشأن، وفيها، أيضاً، ما يفتح صندوق باندورا العجيب

تصعد إلى واجهة الأخبار من حين إلى آخر تسريبات، وتكهنات، وتحليلات، بشأن أملاك اليهود في البلدان العربية. وآخر ما جاء في هذا الشأن تقرير بثه التلفزيون الإسرائيلي، مؤخراً، عن تعويضات تصل قيمتها إلى مائتين وخمسين مليار دولار، يقال إنها قيمة الممتلكات العائدة ليهود البلدان العربية، الذين هاجروا إلى إسرائيل في أواخر أربعينيات ومطلع خمسينيات القرن الماضي.

الكلام عن التعويضات ليس جديداً في الواقع. فقد طُرح من جانب الإسرائيليين على مدار عقود كثيرة مضت، ولكن سياقه ومبرراته تختلف، في الوقت الحاضر، عمّا كانت عليه في الماضي. ففي الماضي جاء الكلام عن التعويضات في معرض محاولة تفريغ قضية اللاجئين الفلسطينيين في مضمونها السياسي والأخلاقي. فظروف الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى 1948، كما تقول الرواية الإسرائيلية، أدت إلى "خروج" مئات الآلاف من الفلسطينيين، وحوّلتهم إلى لاجئين، ومقابل هؤلاء تحوّل مئات الآلاف من اليهود الذين "طردتهم" البلدان العربية إلى لاجئين في إسرائيل.
ولكن السياق الذي تُطرح فيه مسألة التعويضات، اليوم، وثيق الصلة بما يدور من كلام عن "صفقة العصر"، التي يتكاثر بشأنها اللغط، ولكن أحداً لا يعرف تفاصيلها. والواقع أن تقرير القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي عن التعويضات أوضح أنها تأتي في سياق الاستعداد للتعامل مع الصفقة المعنية، كما أشار إلى مشاركة مجلس الأمن القومي الإسرائيلي في حصر وتقدير التعويضات.

وإذا شئنا ترجمة هذا الكلام إلى لغة السياسة يمكن القول إن الورقة التي يضعها الإسرائيليون على الطاولة، الآن، تتمثل في السعي لحل مسألة اللاجئين الفلسطينيين على حساب العرب وبأموالهم. ومع الفرق في المكان والزمان وحجم الضرر، وحتى صعوبة ومخاطر وعبثية المقارنة، إلا أن في الورقة الإسرائيلية الجديدة ما يوحي بإعادة إنتاج مسألة التعويضات التي فُرضت على ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لتعويض ضحايا الهولوكوست. ودفع هذه التعويضات لم يتوقف حتى الآن.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بيهود البلدان العربية، تتجلى في هذا المسعى عملية مزدوجة لتشويه الحقيقة، وتجاهل الواقع: فأغلب هؤلاء لم يغادروا بلدانهم بمحض إرادتهم، بعد تصفية أعمالهم وبيع ممتلكاتهم وحسب، بل وفعلوا ذلك بتحريض وتشجيع من منظمات صهيونية سريّة نشطت في تلك البلدان، أيضاً. وعلاوة على هذا كله، فإن أعدداً كبيرة من أغنياء اليهود خاصة في مصر وشمال أفريقيا كانوا، في الواقع، يحملون جنسيات أجنبية فرنسية، وإيطالية في الغالب.

هذا لا ينفي أن ظروف الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى أوقعت يهود البلدان العربية، خاصة الفقراء منهم، تحت ضغوط نفسية واجتماعية وسياسية قاسية، وأنهم تعرّضوا لمضايقات كثيرة. ولكن جانباً من تلك الضغوط نجم عن نشاطات تخريبية قامت بها المنظمات المعنية، والجانب الآخر نجم عن سياسات شعبوية قصيرة النظر لحكومات عربية في ذلك الوقت.

أما الشق الثاني للتجاهل وتشويه الحقيقة، وحتى إذا غضضنا الطرف عن حقيقة أن الشقاء الإنساني الناجم عن تشريد وطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين في العام 1948، لا يُقدّر بثمن، وأن مقارنة شقاء إنساني بشقاء آخر غير مجدية ومجانية تماماً، فيتمثل في القول إن ودائع البنوك، والأراضي، والبيوت، والمعامل، والمؤسسات التجارية والصناعية، العائدة للفلسطينيين، التي استولى عليها الإسرائيليون، ومئات القرى التي دمّروها، تتجاوز من حيث القيمة مئات المليارات.

ومع ذلك، فلنضع هذا جانباً، ثمة حادثة لا ترد كثيراً في المراجعات التاريخية بشأن هجرة يهود البلدان العربية، وقد سبقت قيام الدولة الإسرائيلية، والحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى، بعقدين من الزمن، وفيها ما يلقي بعض الضوء على جانب معتم في هذا التاريخ.

ففي ثلاثينيات القرن الماضي واجه المستوطنون اليهود الإشكناز في فلسطين، وهم من يهود أوروبا الشرقية والوسطى، صعوبة بالغة في العمل والتأقلم مع الطقس الحار، خاصة في المزارع والحقول، وبما أن فكرة الاستعانة بعمّال فلسطينيين كانت تتنافى مع شعار "العمل العبري"، فقد فكروا في الاستعانة بيهود من البلدان العربية، لأنهم، كما قال كاتسنلسون، الذي كان من قادة الوكالة اليهودية، في حينها: "يشبهون العرب، ويمكن أن يشتغل الرجال في الحقول، والنساء تعمل خادمات عندنا في البيوت".

وفي هذا السياق، وقع الخيار على اليهود اليمنيين، لأنهم الأقل تعليماً بين يهود البلدان العربية، والأكثر ميلاً إلى تصديق الدعاية الدينية. وقد تطوّع شخص يدعى يفنائيلي، وكان من نشطاء الحركة الصهيونية، بالذهاب إلى اليمن لهذا الغرض.

كان المذكور علمانياً تماماً، وبلا قناعات دينية بالمطلق، ولكنه أطلق لحيته، وارتدى ملابس رجل دين، وسافر إلى اليمن لإقناع اليهود اليمنيين بالعودة إلى "أرض الميعاد" لأن عودة المُخلّص قد اقتربت، وعليهم الرحيل قبل فوات الأوان. وبالفعل نجح في تجنيد بضعة آلاف، وعاد بهم إلى فلسطين.

في تاريخ كل هجرة لليهود العرب سبقت قيام الدولة الإسرائيلية أو وقعت بعدها، الكثير من الزوايا التي لم تعد مُعتمة، وهناك ما لا يحصى من الكتب والوثائق والشهادات في هذا الشأن، وفيها، أيضاً، ما يفتح صندوق باندورا العجيب، فالمسألة ليست لاجئين مقابل لاجئين، ولا عقارات مقابل عقارات، بل إعادة الاعتبار إلى الحقيقة والتاريخ، وفي كليهما ما يسحب من الرصيد الأخلاقي للدولة الإسرائيلية، فثمة أكثر من يفنائيلي واحد في هذا التاريخ.