الشاعر مهدي الجواهري.(أرشيف)
الشاعر مهدي الجواهري.(أرشيف)
الإثنين 7 يناير 2019 / 20:01

عودة إلى الجواهري

كان الجزائري يسمع الكثير عن نرجسية الجواهري لكنه يروي كيف قبل الجواهري ان يترشح لجائزة العويس، أغراه مال الجائزة، لكنه فوجئ حين منحت الجائزة لسعدي يوسف وزال غضبه حين علم أنهم خصصوا جائزة باسمه

في تقديم «دراسات فكرية» وهي السلسلة التي أخرجت كتاب زهير الجزائري، «مع الجواهري الحدث والـذات والقصيدة» يقول حسن ناظم أن الجواهري «أكبر شاعر عربي في القرن العشرين» وقد يكون لكثيرين رأي آخر.
المجددون قد ينسبون ذلك لأدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف، وقد ينسبونه لمحمد الماغوط وأنسي الحاج، فقد اجتمع في قرن واحد ثلاثة أنماط من الشعر، بينها من الاختلاف ما لا يجمعها في جيل واحد أو عصر واحد. بيد أن لحسن ناظم حجته في ذلك فإن لشعر الجواهري وأمثاله عياراً في الشعر ومقياساً، لا نجده بسهولة لدى معاصريه الاخرين، عياراً ينتسب إلى سلالة أربى وجودها على قرون وقرون، فأنت اذ تقرأه يخطر لك المتنبي والبحتري وابن الرومي وأبو تمام وسواهم. غير أننا إذا قسنا الجواهري على أبي تمام والمتنبي فإننا مع ذلك لا نخرج بسهولة بمقولة أنه أكبر شاعر عربي في القرن العشرين، فلقد عاصر الجواهري شعراء لا يستطيع أن يبزهم بدون نقاش. لقد توفي احمد شوقي في ثلاثينات القرن العشرين الذي ولد الجواهري في مطلعه وقبل سنة من اختتام القرن التاسع عشر. هو بالطبع طوى القرن العشرين بكامله تقريباً. ربما لذلك لا نستطيع أن نقارنه تواً ببدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأدونيس ومحمود درويش، لكننا نستطيع ببداهة اقل أن نقارنه بأحمد شوقي ، ونستطيع ان نقارنه دون ريب بشعراء العمود في جيله: بدوي الجبل وسعيد عقل والأخطل الصغير، وبالطبع خليل مطران وحافظ ابراهيم، فهو في مصافهم تقريباً ولهم جميعاً نفس السلالة ونفس العيار.

حتى هنا لا يفوز الجواهري بأسبقية سهلة. أنا شخصياً لا أجد أنه يفوق أحمد شوقي الذي ناله نقد غير عادل من مجددي عصره والأرجح أن السياسة لعبت في ذلك، في حين أنه، في الأغلب، الأكثر تجديداً بين مجايليه، ولا نستطيع بسهولة أيضاً أن ننسى سعيد عقل اذا كنا لا نزال في مجال التجديد. ليس هذا، على كل حال، ما يشغلنا الآن فإن ما حفزنا الآن الى هذه المراجعة كتاب زهير الجزائري نفسه «مع الجواهري».

هناك رواية زهير الجزائري، الروائي في الأصل، عن الجواهري الذي يجمعه به ليس فقط الأدب ولكن أيضاً الأصل النجفي، فزهير الشاب حينذاك كان ككثيرين غيره تحت مهابة الجواهري الذي كان عندها في تسعيناته. لذا لم يمانع في أن يملي عليه الجواهري مذكراته، شأنه في ذلك شأن فالح عبد الجبار اللذين قبلا أن يكونا هناك في حضرة الشاعر التسعيني الذي تحوّل رمزاً للعراق وثقافته.

ليس كتاب زهير الجزائري تحليلاً أو نقداً للشعر، رغم ان الشعر يملأ أكثر من نصفه، لكن ما أتى بالشعر اليه كان ما يسبق الشعر من أحداث ومناسبات قادت إليه. ما يهم زهير الجزائري في الكتاب كان بالدرجة الأولى الشاعر نفسه الذي رآه للمرة الأولى في قطار ليلي ذاهب الى المربد. كان الجواهري عاد الى العراق من براغ بعد أن أبدى البعث العائد إلى الحكم يومها قدراً من السماح الزائف. كان القطار يشق في الليل طريقه والمسافرون نيام والجواهري وحده صاح يتأمل من الشبابيك الطبيعة الساحرة. يصف الجزائري كيف كان الجواهري يتذكر. كان الرجل التسعيني صاحياً لكل حركة وكل واقعة يرويها. كان الجزائري يسمع الكثير عن نرجسية الجواهري لكنه يروي كيف قبل الجواهري ان يترشح لجائزة العويس، أغراه مال الجائزة، لكنه فوجئ حين منحت الجائزة لسعدي يوسف وزال غضبه حين علم أنهم خصصوا جائزة باسمه. مسألة المال هذه لم تكن غريبة عن مزاج الجواهري الذي حين عرضت عليه القناة الرابعة الانكليزية أن تحقق فيلماً عنه قبل، لكنه عاد فتراجع. طلب مبلغاً يساوي نصف ميزانية الفيلم بدا جشعاً لكن زوجته قالت إنه الخوف من الموت يخشى أن يكون الفيلم فألاً سيئاً بقرب نهايته.

قصيدة بعد قصيدة يروي الجزائري مناسبتها. هنا نشعر أن وراء الشعر ما ليس شعراً فقط. وراءه تاريخ ومواضعات اجتماعية وسياسية كأن الشعر تعليق واحتفاء وخطابة أو تظاهرة. هكذا يبدو الشاعر الذي أفنى قرناً كاملاً ابن زمانه، وشعره بالتالي موصول بزمانه، لكن ما هو المدى الذي يفصلنا عن هذا الزمان، هل نحن ما زلنا فيه بحيث نقيس أنفسنا على الجواهري ونقيس الجواهري علينا أو أن بيننا وبين الجواهري أكثر من قرن وربما لم يكن بيننا وبينه أي زمن.