بطريرك القسطنطينية برتلماوس (يمين) والبطريرك الروسي كيريل (وسط) في اسطنبول.(أرشيف)
بطريرك القسطنطينية برتلماوس (يمين) والبطريرك الروسي كيريل (وسط) في اسطنبول.(أرشيف)
الأربعاء 9 يناير 2019 / 20:38

حتّى الكنائس تنشقّ

فلاديمير بوتين الذي تربطه علاقة وثيقة بالبطريرك كيريل، ويعامل الكنيسة بوصفها أحد أعمدة نظامه، إنّما ساهم بنشاط في قومنة المسيحيّة الأرثوذكسيّة الروسيّة

قبل أيّام استقلّت الكنيسة الأرثوذكسيّة في أوكرانيا عن "زميلتها" الروسيّة. الحدث الذي شهدته مدينة إسطنبول ورعاه رئيس كنيستها البطريرك بارثولوميو، جاء يذكّرنا بحقيقة بارزة: إنّ الكنائس، حتّى الكنائس كوحدات صلبة للإيمان، يمكن أن تنشقّ. فما كان يحصل قبل قرون لا يزال قابلاً للحصول في يومنا هذا.

ذاك أنّ الروابط الدينيّة، كسواها من المؤسّسات والبُنى، قد لا تصمد وحدتها حين تصطدم بخلافات في السياسات والمصالح بين أهل الإيمان نفسه. وقد تكون الأسباب التي تفجّر الوحدة أعمق وأبعد تأثيراً، على ما حصل ابتداءً بالقرن السادس عشر، مع ما عُرف بحركة الإصلاح الدينيّ البروتستانتيّ. فقد التقى ظهور الطباعة الذي أتاح قراءة الأناجيل باللهجات – اللغات المحلّيّة، ومن ثمّ محو الأمّيّة، ونشوء براعم بورجوازيّة أرادت أن تستقلّ بأسواقها، وبالتالي نشوء البدايات القوميّة في أوروبا. وكان من نتائج هذا اللقاء تفجير وحدة العالم الكاثوليكيّ بقيادة بابا روما، مع ما استجرّه ذلك من حروب ونزاعات.

والحال أنّه منذ كفّت الإمبراطوريّات، أو ما تبقّى منها، عن أن تكون "مقدّسة"، تزايد التجرّؤ على روابطها الدينيّة الجامعة.

هكذا سيبدو من غير الطبيعيّ، وغير المنطقيّ، أن تستمرّ تبعيّة الكنيسة الأوكرانيّة للكنيسة الروسيّة فيما الأوكرانيّون يسمّون الروس "غزاة"، ويسمّون دولتهم دولة "معتدية".

لقد بدأت هذه الوجهة الجديدة مع استقلال أوكرانيا في 1991 على أثر تفكّك الاتّحاد السوفياتيّ، لكنّها تنامت بنتيجة احتلال موسكو شبهَ جزيرة القرم في 2014 وإلحاقها بها، فيما كان متمرّدون مدعومون من روسيا يستولون على مساحات شاسعة في شرق أوكرانيا. سياسات الرئيس الروسيّ أدلت بدلوها أيضاً. ففلاديمير بوتين الذي تربطه علاقة وثيقة بالبطريرك كيريل، ويعامل الكنيسة بوصفها أحد أعمدة نظامه، إنّما ساهم بنشاط في قومنة المسيحيّة الأرثوذكسيّة الروسيّة. إنّه، مثلاً، لا يكتفي بالمشاركة في مناسباتها الدينيّة، بل يدمج تلك المناسبات بالمناسبات الوطنيّة الكبرى، والعكس بالعكس. هذا السلوك استدعى ردّاً من طبيعته نفسها: ذاك أنّ الرئيس الأوكرانيّ بترو بوروشنكو يعامل انفصال كنيسته كقضيّة تتّصل بالمصير القوميّ، لا بالدعاية السياسيّة فحسب. وهو لهذا السبب كان أبرز حضور حفل توقيع البطريرك بارثولوميو في اسطنبول على الانفصال.

لكنّ ذلك لا يعني أنّ الأمور بسيطة أو عديمة التعقيد، نظراً للعلاقات التاريخيّة العميقة بين روسيا وأوكرانيا، ولانتماء قرابة خُمس المواطنين الأوكرانيّين للإثنيّة الروسيّة. وإذ يعتبر الروس أنّ مدينة كييف، عاصمة أوكرانيا، هي مهد كنيستهم الأرثوذكسيّة وأصلها، فإنّ نفوذهم وسيطرتهم عليها يعودان إلى العام 1686. وعلى رغم الانفصال الأخير، لا تزال هناك كنيسة أوكرانيّة أخرى تضمّ 12 ألف أبرشيّة وتعلن ولاءها لموسكو (فيما الكنيسة المنشقّة تضمّ 5 آلاف أبرشيّة فقط، علماً بأنّ تقديرات عديدة تقول إنّ بين المنتسبين للكنيسة "الوحدويّة" من سينشقّون تباعاً وينضوون في الكنيسة القوميّة).

يضاف إلى هذا الحدث أبعاده التي تتعلّق بكنائس أرثوذكسيّة أخرى، لا سيّما منها كنيستا ليتوانيا وروسيا البيضاء: فهاتان ربطتهما علاقات تاريخيّة خاصّة بأوكرانيا، قبل توسّع الإمبراطوريّة الروسيّة ثمّ السوفياتيّة. وقد تفكّر كييف في "استعادتهما" إلى كنفها.

الحدث الأخير ترافق أيضاً مع انقطاع العلاقة بين كنيسة إسطنبول، التي اعترفت باستقلال الكنيسة الأوكرانيّة وباركته، والكنيسة الروسيّة، علماً بأنّ الثانية تمارس نفوذها على 150 مليوناً من أصل مجموع أرثوذكس العالم البالغين 300 مليون، والذين يعتبرون اسطنبول رأس الكنيسة الكونيّة، أو "المسكونيّة" بحسب اللغة المذهبيّة.

وهكذا يُستحسن بالذين ظنّوا أنّ الحروب الدينيّة صارت تنتمي إلى الماضي، أن يراجعوا – في زمن "الهويّات" الراهن – حساباتهم.