السبت 12 يناير 2019 / 20:06

هل كان المتنبي فيلسوفاً أرسطيّاً؟

خالد الغنامي

في عام 1931صدر في بيروت، كتاب "الرسالة الحاتمية فيما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو في الحكمة" لمحمد بن الحسن الحاتمي، بتحقيق وتعليق: فؤاد أفرام البستاني، أستاذ الآداب العربية في كلية القديس يوسف. لمن لا يعرفها، كلية القديس يوسف في رأيي الشخصي هي أقوى جامعة في لبنان، ولطالما تميزت بالدراسات الفريدة. لم تكن هذه أول طبعة لرسالة الحاتمي، فأول من طبعها هو الأديب المشهور القس أنطوان بولاد في 1868في مؤلف أسماه "راشد سوريا"، لكن طبعة الأستاذ فؤاد أفرام، قد ضمت إليها دراسة وضعتْ لنا رؤية هامشية محيطية، بقصة هذا الكتاب العجيب.

الحاتمي هذا كان معاصراً لأبي الطيب وقد كان في البداية حاقداً عليه جداً، إلا أن أبا الطيب بشخصيته الساحرة وحكمته المعهودة، نظر إلى هذا الشاعر فرأى فيه ثقافة وفكراً ولساناً سليطاً وجرأة، فلازم أبو الطيب ملاطفة هذا الحاقد ومعاملته بالحسنى حتى غسل حقده، فاستحال مدافعاً عن المتنبي يؤلف الكتب في الثناء عليه ويضعه فوق الفلاسفة الأوائل. كل هذا معناه أن شهادته على درجة من الأهمية. هذا الشاعر الحاتمي قد درس الفلسفة بلا شك، يشير إلى هذا قوله "وقد ثبت عند ذوي العقل والتمييز إنما فَضُل سائر الحيوان بالعقل المتناول علم ما غاب عن الحواس وثبت أن النظر الفكري في النفس مفصح عما تناوله علمُه العقل". هذا النص القصير يكشف بوضوح عن شخصية قد درست النزاع بين المادية والميتافيزيقية.

يقول الحاتمي: "لما رأيت أبا الطيب أحمد بن الحسين الشاعر اللغوي المعروف بالمتنبي قد أتى في شعره على أغراض فلسفية ومعاني منطقية، أردت الموافقة بين ما توارد به في شعره، مع أرسطو في حكمته" وفي موضع آخر يصف أبا الطيب بقوله "أغرق في درس العلوم، وإن يكن ذلك على سبيل الاتفاق، فقد زاد على الفلاسفة بالإيجاز والبلاغة الألفاظ العربية، وهو على الحالين، على غاية من الفضل، وسبيل نهاية من النبل". ثم انطلق الحاتمي في إثبات دعواه بإيراد نص أرسطي يردفه ببيت شعر من أشعار أبي الطيب، حتى نهاية الكتاب. سنستعرض الآن بعض هذه النصوص، وننتقي منها ونختصر، ثم ننظر إلى أين ستذهب بنا. كتب الحاتمي:

"قال أرسطو: الإنسان، شبح روحاني، ذو عقل غريزي، لا ما تراه العيون من ظاهر الصورة.

وقال المتنبي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرفٍ من الإنسان

قال أرسطو: لا يساكن شهوة الطبع، لعلمه بزوالها، والجاهل يظن أنها خالدة له، وهو باقٍ عليها. فهذا يشقى بعقله، وهذا ينعم بجهله. وقال أبو الطيب:
ذو العقل يشقى، في النعيم بعقله
وأخو الجهالة، في الشقاوة ينعمُ

قال أرسطو: الألفاظ المنطقية مضرّة بذوي الجهل، لنبوِ إحساسهم عن دركها. قال أبو الطيب:
بذي الغباوة، من إنشادها، ضررٌ
كما تضر رياح الورد بالجُعل

يقول أرسطو: من علِم أن الكون والفساد يتعاقبان الأشياء، لم يحزن لورود الفجائع، لعلمه أنه من كونها، وهان ذلك عليه، لعجز الكل عن دفع ذلك. وقال المتنبي:
إذا استقبلت نفس الكريم مُصابها
بخبث ثنت، فاستدبرته بطيّب

قال أرسطو: ترداد حركات الفلك، يُحيل الكائنات عن حقائقها. وقال المتنبي:
ومن صحِب الدنيا طيلاً، تقلبت
على عينه، حتى يرى صدقها، كذبا

يقول أرسطو: النفوس المتجوهرة تأبى مقارنة الذِلة جداً، وترى فناءها في ذلك، والنفوس الدنيئة بضد ذلك. وقال المتنبي:
فحب الجبان النفس أورثه البقا
وحب الشجاع الحرب أورده الحربا

قال أرسطو: العيان شاهد لنفسه، والأخبار يدخل عليها الزيادة والنقصان، فأولى ما أخذ ما كان دليلا لنفسه.

وقال المتنبي: خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به
في طلعة البدر ما يغنيك عن زحلِ.

قال أرسطو: الرجاء تمنٍ، والشك توقف، وهما أصل الأمل. وقال المتنبي:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربُّه
وفي الهجر، فهو الدهر، يرجو ويتّقي

قل أرسطو: لسنا نمنع ائتلاف الأرواح، وإنما نمنع ائتلاف الأجسام فإن ذلك من طبع البهائم. وقال المتنبي:
وما كل من يهوى يعفّ، إذا خلا
عفافي، ويرضي الحب، والخيل تلتقي

قال أرسطو: إن الحكيم تُريه الحكمة أن فوق علمه علما، فهو يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهى، فيسقط بجهله فتمقته الناس. وقال المتنبي:
وما التيه طبي فيهم، غير أنني
بغيض إلى الجاهل المتعاقل

ورأى أرسطو غلاماً حسن الوجه، فاستنطقه فلم يجد عنده علماً، فقال : نعم البيت، لو كان فيه ساكن. وقال المتنبي:
وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له
إذا لم يكن في فعله والخلائق

قال أرسطو: الكلال والملال يتعاقبان، الأجسام لضعف آلة الجسم، لا لضعف آلة الحس. وقال المتنبي:
وإذا الشيخ قال "أفٍ"، فما ملَّ
حياة، و إنما الضعف مل"

سنتوقف هنا عن الاقتباس من كتاب الحاتمي فقد اكتفينا واتضحت لنا الصورة. مما لا شك فيه أن أبا الطيب ما كان ليجلس على عرش الشعر لولا أنه رجل مثقف متميز، إنسان مختلف بكل معنى للكلمة، وليس شاعراً عادياً، وفي هذه المقارنة التي أوردها الحاتمي، وإن كان يعتريها التعسف في بعض الأحيان من أجل الربط بين النص الأرسطي ونص المتنبي، إلا أنها لا تبقي شكاً في أن أبا الطيب متأثر ككل مثقفي عصره بفلسفة أرسطو العربي. أقول أرسطو العربي، أو كما عرفه العرب، أو كما رُسمَ شخصية اعتبارية، رسمها المترجمون العرب والسريان، وهي شخصية قد تختلف بعض الشيء عن نصوص أرسطو في الدوائر الفلسفية والجامعات المعاصرة. لقد دخل هذه الترجمات تصرّف المترجمين في النصوص وأنهم نسبوا لأرسطو ما ليس له، مثلما فعلوا عندما ترجموا كتاب "أيثولوجيا" على أنه من كتب أرسطو، بينما هو جزء من تاسوعات أفلوطين، الذي هو في نظر نخبة من الفلاسفة أفضل من أرسطو. على أية حال، يبدو أن أبا الطيب، ككل مثقفي عصره من العرب، قد عرف أرسطو العربي، بل من الواضح من رسالة الحاتمي أنه قد ترجم بعض نصوص أرسطو شعراً وحوّل حكمته إلى أبيات خالدة، وهذا النص الذي سنختم به هذه المقالة من كتاب الحاتمي، سيكون خير شاهد على صحة هذه الدعوى:

قال أرسطو: الجبن ذِلة كامنة في نفس الجبان، فإذا خلا بنفسه، أظهر شجاعة. وقال المتنبي:
وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ
طلب الطعن، وحده، والنزالا