أبو علم الوراثة الراهب النمساوي غريغور مندل (أرشيف)
أبو علم الوراثة الراهب النمساوي غريغور مندل (أرشيف)
الأحد 13 يناير 2019 / 19:27

رجل دين ورجل علم

قام أحد القساوسة بإجراء تجارب علمية على حبوب البازلاء، توصل فيها إلى أن العوامل الوراثية المسؤولة عن صفات البازلاء، كشكلها ولونها، تُورث بشكل مستقل عن بعضها بعضاً، وهي تتجمع وتتفرق عبر الأجيال تبعاً للمعايير الإحصائية للصدفة.

هل صار مندل أباً للوراثة ومُكتشفاً لقوانين الوراثة بسبب كونه راهباً ومتديناً، أم بسبب كونه عالماً تجريبياً؟

نشر هذا القس أبحاثه في بيان علمي في عام 1856 باللغة الألمانية التي كانت لغة عالمية في ذلك الوقت، ولم يلاحظ المجتمع العلمي هذه الأبحاث التي ظلت حبيسة الأدراج إلى سنة 1900، العام الذي أعيد فيه الاعتراف بفضل هذا القس المسيحي في مدينة "فيينا" بعد وفاته بسنين.

يعرف الكثيرون غريغور مندل وقوانينه التي وضعت حجر الأساس لعلم الوراثة، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن مندل لم يُؤخذ على محمل الجد من قبل أطراف مختلفة في محيطه ومجتمعه، فأهل العلم التجريبي لم يتكلفوا مشقة الرد على أبحاثه رغم إرساله لبعضهم 140 طرداً من البازلاء، مرفقةً بوصف تفصيلي لحبوب البازلاء مع توقع الأبناء الناتجين في الجيل الثاني منها.

وإخوانه رجال الدين اعتبروا هذا التلقيح الاصطناعي لحبوب البازلاء نوعاً من النشاط الجنسي الملعون حتى لو كان جنساً نباتياً بحتاً، وأعداؤه الشيوعيون لم يلتفتوا إليه لأنه راهب، فكيف يمكن أن ينعموا بنوم هادئ إذا اعترفوا أن مندل القسيس هو أبو الوراثة في العالم.

من هنا نطرح سؤالاً مهماً يلامس واقعنا في كل يوم، وهو هل صار مندل أباً للوراثة ومُكتشفاً لقوانين الوراثة بسبب أنه راهبٌ ومتدينٌ، أم بسبب أنه عالمٌ تجريبيٌ؟ بكل تأكيد أن الخيار الثاني هو الصحيح كما قال دينيس بويكان في كتابه "البيولوجيا تاريخ وفلسفة"، ولنا في حضارتنا مثال الطبيب والفقيه ابن النفيس، الذي شرح الدورة الدموية الصغرى لأنه طبيب تجريبي وعالم تشريح، وليس بسبب أنه فقيه شافعي.

تحصل الكارثة -عادةً- عندما يخلط أحدهم بين مجال العلم التجريبي ومجال العلم الديني، فيتحدث باسم العلم من خلال عقائده المُسبقة لا من خلال العلم نفسه، ولعل خير مثال على ذلك زغلول النجار الذي خلط بين تخصصه الجيولوجي وتخصصه الشرعي، في حديثه عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فأنتج منظومةً مشوهةً من الأخطاء والمبالغات التي لا هي حقائق علمية، ولا هي حقائق دينية، وهو نفس الأمر الذي يصنعه الطبيب الذي أمضى 15 سنة في دراسة الطب وتخصص التخصص، ثم تراه يُفتي الناس بالحجامة وبول الإبل والسنّوت، رغم افتقاره لدليل علمي على فاعليتها، وهو الذي لا يصف دواءً إلا إذا أجازته البحوث والهيئات العلمية.

الفصل بين العلم الشرعي والعلم التجريبي هو أمر بديهي يُرجع الأمور إلى نصابها الصحيح، لكن في الوقت نفسه، يستطيع عالم الدين أن يكون طبيباً أو مهندساً أو عالم فراشات، فاكتشاف دواء، أو تشييد برج، أو إنقاذ فراشة من الانقراض هو علم مُكتسب من العلم التجريبي، أما العلوم الدينية فهي مجال مختلف يكتسبه المرء من الدراسات الدينية، والقراءات الفلسفية، والتجارب الروحانية، فلا يجعل رجل الدين العلم وسيلةً لتمرير معتقداته الخاصة، ولا يجعل رجل العلم الدين وسيلةً لإثبات علومه التجريبية، فصناعة الهالة الدينية المقدسة للمعلومة الدينوية غير المقدسة هو تشويه للدين والعلم معاً.