يهود شرقيون بعد الوصول إلى إسرائيل (أرشيف)
يهود شرقيون بعد الوصول إلى إسرائيل (أرشيف)
الأحد 13 يناير 2019 / 19:34

زاوية مُعتمة في حكاية لم تكتمل بعد...!

أشرنا، في مقالة سبقت إلى هجرة اليهود من البلدان العربية، وعودة هذا الموضوع وما يتصل به من دعاوى ومطالبات، إلى الواجهة في الآونة الأخيرة، وتناولنا بعض ما تنطوي عليه هذه وتلك من دلالات. ونضيف، اليوم، ما يُلقي المزيد من الضوء على أمر يكتنفه الغموض في نظر غير المُختصين على الأقل. فثمة أكثر من زاوية مُعتمة في حكاية لم تكتمل فصولها بعد.

لم يقتصر الأمر على رش المهاجرين من يهود البلدان العربية بمادة الدي دي تي وحسب، بل كان ثمة محاولة لتطهيرهم من لغتهم وإرثهم الثقافي، أيضاً. فأغلب هؤلاء كانوا يتكلّمون اللغة العربية، بلهجات مختلفة، كما كانت عاداتهم، وثقافتهم، جزءاً من عادات وثقافة المجتمعات التي جاءوا منها

فيهود البلدان العربية لم يحتلوا مكانة يُعتد بها في المخيال السياسي، والسياسة العملية، لآباء الحركة الصهيونية، التي كان جمهورها الحقيقي في أوروبا الشرقية والوسطى، وعليه كان رهانها الكبير، بالمعنى الديمغرافي، والسياسي، والثقافي.

لذا، عندما وضع بن غوريون في 1942 خطةW عُرفت في حينها "بخطة المليونين"، لجلب مليوني مهاجر إلى فلسطين لم dكن ليهود البلدان العربية مكانة تُذكر، فأوروبا الشرقية والوسطى كانت الخزان البشري، ومحط الأنظار والرهان.

ومع ذلك، تعرضت الخطة للتعديل بعد عامين، على ضوء ما تسرب من معلومات حول مصير اليهود في أوروبا، فأصبحت الخطة، التي جرى تعديلها باسم "خطة المليون"، أكثر تواضعاً من حيث العدد، وأصبح القسم الأكبر من رهانها على يهود البلدان العربية.

ولم يكن لتعديل كهذا أن ينجو من إحساس عميق بالامتعاض، وخيبة الأمل.

فآباء الحركة الصهيونية، ونشطاءها، لم يكونوا غير مطلعين على أوضاع يهود البلدان العربية وحسب، بل اعتنقوا أفكاراً استعلائية ضدهم بوصفهم جزءاً من الشرق الجاهل، والمُتخلّف، أيضاً.

ومع هذا، وجد قادة الوكالة اليهودية أنفسهم في حاجة ماسة لهؤلاء كأيدٍ عاملةٍ، وجنودٍ في معركة على الأبواب. وقد كانوا مفيدين، على نحو خاص، في معارك 1948، وسنوات قليلة لاحقة، عندما أسكنتهم الوكالة اليهودية في بيوت وقرى هجرها الفلسطينيون للحيلولة دون عودتهم، وفي المناطق المحاذية لخطوط التماس، على حدود الدولة الجديدة، لملء الفراغ الديمغرافي بالكثافة السكانية اليهودية.

وصل إلى فلسطين في فترة قصيرة، نسبياً، سبقت حرب 1948 وأعقبتها قرابة 260 ألفاً من يهود البلدان العربية.

ورغم الحاجة الماسة لهؤلاء، إلا أنهم تعرضوا لمعاملة مُهينة من جانب موظفي الوكالة اليهودية، والدولة الإسرائيلية الجديدة، نتيجة الأفكار الصهيونية الاستعلائية عن تخلف الشرقيين وجهلهم، بما فيهم يهود الشرق، بطبيعة الحال.

ولدينا، في هذا الصدد، وثيقة أدبية مُدهشة بعنوان "فكتوريا" وهي رواية للكاتب الإسرائيلي من أصل عراقي، سامي ميخائيل، صور فيها حياة المهاجرين من يهود العراق في مُخيمات مرتجلة من الصفيح، والبيوت مسبقة الصنع، والبراكيّات الخشبية، في مناطق نائية، بعيد وصولهم إلى الدولة الإسرائيلية في سنواتها الأولى.

لم يقتصر الأمر على رش المهاجرين من يهود البلدان العربية بمادة الدي دي تي وحسب، بل كان ثمة محاولة لتطهيرهم من لغتهم وإرثهم الثقافي، أيضاً.

فأغلب هؤلاء كانوا يتكلّمون اللغة العربية، بلهجات مختلفة، كما كانت عاداتهم، وثقافتهم، جزءاً من عادات وثقافة المجتمعات التي جاءوا منها. وكان يجب التخلص من هذا كله، وتطهيرهم من اللغة والثقافة والذاكرة، لأن فيها ما يعيد التذكير بالعدو، ولغته، وثقافته.

وفي العقود الأخيرة، على يد الجيل الثاني والثالث، عاد الكثير مما كان مسكوتاً عنه في تلك الفترة إلى الواجهة، في صورة مذكرات ونصوص أدبية، وأعمال موسيقية وسينمائية، ودراسات تاريخية واجتماعية، فالكثير من الأبناء والبنات كتبوا عن سنوات طفولتهم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في إسرائيل، وكيف شعروا بالخجل من آبائهم وأمهاتهم لأنهم كانوا يتكلمون اللغة العربية، ويسمعون الموسيقى الشرقية، في البيت.

والواقع أن هوية يهود البلدان العربية لم تكن ملتبسة وإشكالية في نظر أولادهم وبناتهم، في الدولة الإسرائيلية، وحسب، بل وأضفى عليها موقف الدولة ومؤسساتها المزيد من أوجه الالتباس والغموض.

فمن بين كل الطوائف اليهودية لم يُصنف يهود البلدان العربية في سجلات الوكالة اليهودية، والدولة الإسرائيلية، والمنظمة الصهيونية العالمية، وما لا يُحصى من منظمات وهيئات، بوصفهم يهوداً مصريين أو عراقيين، أي على اسم بلدانهم الأصلية، ولا بوصفهم عرباً، مثلاً، بل بوصفهم "سفارديم"، أو في تعبير أوسع "مزراحيم".

ويعود الفضل، في الواقع، للجيل الثاني والثالث من أبناء يهود البلدان العربية في إعادة تسميات من نوع اليهود المغاربة،العراقيين، واليمنيين إلى التداول، بدلاً من الكلام العام عن "السفارديم" و"المزراحيم".

بكلام أكثر مباشرة: عومل يهود البلدان العربية بطريقة مهينة في إسرائيل، وتعرضت ثقافتهم وذاكرتهم للملاحقة، ومحاولات المحو.

ورغم مفارقة أن المهانة وقعت على يد الدولة التي تزعم أنها أنقذتهم، إلا أن هؤلاء كما تقول إيللا شوحاط، أستاذة الدراسات الثقافية، وأحد أبرز أصوات يهود البلدان العربية في إسرائيل، وهي من أصول عراقية، هم الذين أنفذوا المشروع الصهيوني نفسه، بعد نفاد الخزان البشري في أوروبا الشرقية والوسطى.