رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي.(أرشيف)
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي.(أرشيف)
الأربعاء 16 يناير 2019 / 20:38

بريطانيا والديمقراطيّة و... القيادة

مع تولّيها رئاسة الحكومة، راحت تغلّب اعتباراتها الحزبيّة الضيّقة على المصلحة العامّة. هذا ما انعكس بوضوح كاف في تفاوضها المديد مع دول الاتّحاد الأوروبيّ

الهزيمة التي أنزلها مجلس العموم البريطانيّ برئيسة الحكومة المحافظة تيريزا ماي مُهينة، بل مُذلّة، بكلّ معاني الكلمة. 432 صوتاً عارضوا خطّتها للخروج من الاتّحاد الأوروبيّ وتطبيق بريكسيت، مقابل 202 صوتاً أيّدوها.

الخطّة تلك التي قضت ماي سنتين في التفاوض حولها مُزّقت، بل ديست بأقدام النوّاب البريطانيّين. جيريمي كوربن، قائد حزب العمّال المعارض، انطلق من هذه الهزيمة كي يُلحق بماي وحزبها هزيمة أكبر: لقد طرح الثقة بها وبحكومتها.

صحيح أنّ محاولة كوربن مرشّحة للفشل، إذ أنّ المحافظين، المنقسمين حول كلّ شيء تقريباً، قد يتوحّدون وراء قائدتهم كي لا يخسر حزبهم كلُّه 10 داونينغ ستريت. وهم ربّما غيّروا تيريزا ماي كي يكملوا ولايتهم الدستوريّة بقائد آخر يمضي بهم إلى الانتخابات المقبلة. مع هذا فالصحيح أيضاً أنّ ما حصل خطير جدّاً، وهو يطرح، للمرّة الأولى في تاريخ البرلمانيّة الدستوريّة البريطانيّة، ما أسمته صحيفة "الغارديان" مسألة "التوفيق بين سيادة الشعب وسيادة البرلمان".

في هذه الغضون تظهر إلى الواجهة مسألة أخرى، وثيقة الصلة بأحوال التردّي الديمقراطيّ، لا في بريطانيا وحدها، بل في عموم البلدان التي تعتمد هذا النظام. إنّها مسألة القيادة التي تتعالى على الصغائر وترتفع إلى سويّة المسائل المصيريّة.

فماي، كما نعلم، لم تكن من مؤيّدي بريكست، إلاّ أنّها لم تبذل، بوصفها يومذاك وزيرة وقطباً من أقطاب المحافظين، أيّ جهد لمقاومة الوجهة الانفصاليّة التي عبّر عنها الاستفتاء. في ما بعد، ومع تولّيها رئاسة الحكومة، راحت تغلّب اعتباراتها الحزبيّة الضيّقة على المصلحة العامّة. هذا ما انعكس بوضوح كاف في تفاوضها المديد مع دول الاتّحاد الأوروبيّ.

سلف ماي، رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون، كان قد ارتكب خطيئة أكبر حين جرّ البلاد إلى استفتاء بريكست، كي يطوّق اعتراضات المناهضين لأوروبا داخل حزبه المحافظ، كما في البيئة اليمينيّة التي مثّلها حزب "يوكيب" ("حزب الاستقلال للملكة المتّحدة"). المزايدة الصغرى، في هذا الميدان الحزبيّ، تأدّت عنها كارثة كبرى في الميدان الوطنيّ الأعرض. بعد ذاك راحت بريطانيا تتخبّط في مشكلة صنعتها بنفسها ولا تجد طريقاً ممهَّدة، أو ممكنة، للخروج منها.

على الجانب الآخر هناك القائد العمّاليّ كوربن. فهو أيضاً أبدى أقصى الفتور في مواجهته للاستفتاء السيئ الصيت. لقد اعتمد موقفاً معلناً مفاده أنّه ضدّ بريكست، إلاّ أنّه لم يحرّك أيّ ساكن لإفشاله. بعض المحلّلين ردّوا موقفه يومذاك إلى سببين: أوّلهما، الولاء، الذي لم يتحرّر منه تماماً، لتلك النظريّة اليساريّة القديمة من أنّ الاتّحاد الأوروبيّ هو اتّحاد بورجوازيّين فيما هم يريدون اتّحاداً بين كادحي أوروبا وشغّيلتها. أمّا الثاني فهو، أيضاً وأيضاً، اللعبة السياسيّة الصغرى ضدّ خصومهم المحافظين. وغنيّ عن القول إنّ سلوك كوربن هذا ينسجم إلى أبعد الحدود مع شعبويّته التي تجيز له قول أيّ شيء، وطرح أيّ وعد أو برنامج يحقّق الشعبيّة للحزب، من دون أيّ تمعّن في القدرة على التطبيق.

لكنّ المفارقة أنّ كوربن، الذي صعد في حزبه كردّ على البليريّة، سريعاً ما صار يشبه توني بلير لجهة تغليب الصغائر السياسيّة على الكبائر الوطنيّة، وقول أيّ كلام – صحيحاً كان أم كاذباً، وقابلاً للتنفيذ أو غير قابل.

إنّها لوحة غير مشجّعة إطلاقاً، ولا تبعث إلاّ على مزيد من القلق بشأن الديمقراطيّة عموماً.