الروائي والشاعر الألماني هيرمان هيسه.(أرشيف)
الروائي والشاعر الألماني هيرمان هيسه.(أرشيف)
الأربعاء 16 يناير 2019 / 20:23

وقائع وأحلام

لو كان جويس ابن هيرمان كافكا، لكان محل الخردوات فردوساً لجرد القوائم، فعوليس متخمة بقوائم من هذا النوع، قوائم أطعمة، مواعيد القطارات، وصفات شعبية لألم المفاصل، محلات الرهونات، مكاتب مفقودات في محطات السكك الحديدية، إعلانات مبوبة، مسارات سفن البريد، بطاقات حفلات المسارح

منذ سنوات طويلة، وأنا أقطع رحلة في اتجاه واحد، رحلة لا عودة منها. كنتُ مُسلَّحاً بكل ما يتطلبه الطريق. خطر وحيد يهدد الرحلة، وهو الملل، ولدفع هذا الملل، كان عليَّ أن أتسامح قليلاً في أمور مثل الزهد، وللمُفارَقَة، الزهد هو الذي يُكْسب الرحلة معنًى. فإذا اعتمدتُ القليل من الإثارة، انكشف زيف الزهد منذ بداية الرحلة، وكأنَّ الرحلة كانت في الأساس لتغطية نقص شديد في الزهد، وعلى هذا فلم يكن الملل مُفاجئاً، بل كان مكتوماً، ومُصاحباً منذ بداية الرحلة.

لا مبرر إذن للعودة، فالرحلة لم تبدأ بعد. يبدو أنني قرأتُ عن رحلات أبطال في روايات، وتوحدتُ بمصائرهم. مصير جوزيف كينشت بطل رواية "لعبة الكريات الزجاجية" للكاتب الألماني هيرمان هيسه. لم يكن جوزيف يعرف السباحة، لكنه خاض في الماء وراء تلميذه، ليكسب ثقته، وانتهتْ الرحلة بموته. ومع هذا فقد كنتُ منقذاً على الكرسي الحديدي المرتفع، لحوض سباحة، في كابيرتاج حلوان، بداية ثمانينيات القرن الماضي. باستدلال منطقي، وبخيبة أمل، فأنا غير مُعرَّض للغرق.

أتخيَّل الكتابة كأنها عربة سباق على طريق، بمحرك ألماني رباعي الدفع، كانط، هيغل، نيتشه، هيدغر. خزَّان الوقود المترع لحد التخمة، والمُفصَّل في كابينة القيادة الصغيرة، بحجم خمس شاحنات عملاقة. خمسون طن من الوقود جاهزة للانطلاق. غمزة هينة من مفتاح التشغيل. صوت الموتور الناعم. الكاتب السائق يدوس على دوَّاسة البنزين. تزمجر إسطوانة العقل المحض. يدوس أكثر. تصرخ فلسفة الحق. يرفع قدمه عن الدوَّاسة. تختفي الصرخة. يدوس بنَفَسِ أطول. صِوَات حيَّاني للعود الأبدي. الدوَّاسة على آخرها. دَخْنَة احتراق الوجود.

كتبتُ في مقدمة رواية انتهيتُ أخيراً من كتابتها، أن نقائص رواية ما، تُقابل في الغالب مقاصد فارغة لم أستطع تحقيقها، لا سيما أنني ألوِّح بالمقاصد في المقدمة أفضل من سردها داخل الرواية.

كان أمامي احتمالات أربعة، أن يكتفي القارئ بقراءة المقدمة، ولا يقرأ الرواية، أو أن يقرأ الرواية، ويترك المقدمة، أو أنه يقرأ الرواية أولاً ثم يقرأ المقدمة بعد ذلك، أو أنه لا يأخذ كلمات المقدمة على محمل الجد، فيقرأ المقدمة ثم يقرأ الرواية.

في الاحتمال الرابع سيقول ما قلته في المقدمة، أي أنه كيف تكون خلاصة أربع صفحات أفضل من مئة صفحة؟ لكنّ هذا القارئ يقع في تناقض يمس ذائقته، وهو كيف لم يأخذ كلمات الروائي في الاحتمال الأول على محمل الجد، هل اعتقد مثلاً أن كلمات الروائي في المقدمة، قد تعني شيئاً من التواضع، لا يجب على القارئ أن يلتفت إليه؟ لكن أيضاً الكلمات نفسها في المقدمة قد تُؤخذ بمعنى الغرور من الروائي الذي يتحدى القارئ أن يأخذ بنصيحته العدمية.

كان الهوس ينمو، ويتصاعد حسياً مع نهاية المقدمة. ألتفتُ بشكل مفاجئ، فألمح في عمق الممر قدماً تنقلب في لحظتها الأخيرة إلى داخل المطبخ. أنتظر قليلاً، ومن وراء الوعي أذهب إلى المطبخ لعمل فنجان قهوة. الهاجس أن هناك إشارات غير مقصودة في أنحاء الرواية قد يعرف منها القارئ أنني كتبتُ الرواية أولاً ثم جاءتْ بعد ذلك المقدمة. أعود إلى الرواية والمقدمة. أبحث عن إشارات غير مقصودة لمقاصد فارغة.

في محل خردوات هيرمان كافكا، والد كافكا، كما جاء في كتاب راينر شتاخ "كافكا- السنوات الأولى"، أقمشة كتان، وملابس داخلية، ودانتيل، وأربطة وجوارب، والمآزر، والمناديل، والإبزيمات، والعلب الصغيرة، والمراوح، والأزرار، والياقات، والقفازات المصنوعة من الفرو، والأحذية من قماش اللباد، فضلاً عن البلي، والإبر، وسكاكين الجيب، وفرش الأسنان.

لا نجد في كتابة كافكا تعداداً من هذا النوع، ربما لأن قوائم الأشياء الصغيرة تولِّد إحساساً جمالياً فاقعاً، وكافكا كان شديد النفور من الكتابات الجمالية. لو كان جويس ابن هيرمان كافكا، لكان محل الخردوات فردوساً لجرد القوائم، فعوليس متخمة بقوائم من هذا النوع، قوائم أطعمة، مواعيد القطارات، وصفات شعبية لألم المفاصل، محلات الرهونات، مكاتب مفقودات في محطات السكك الحديدية، إعلانات مبوبة، مسارات سفن البريد، بطاقات حفلات المسارح.

في عزاء واحد من العائلة اعتذر والدي عن عدم حضوري، لانشغالي بالدراسة. كنتُ في السنة الأولى لدراسة الفلسفة. نقل والدي الحُجَّة الواهية، وهو يعرف أنني لا أحب واجب العزاء. كان المفقود ابن عم والدي. لم أره إلا في ألبوم صور قديم للعائلة. كانت له صورتان. واحدة وهو واقف على جسر خشبي ممتد في البحر، والثانية صورة زفافه. أشقاء والدي قدَّروا حُجَّة الدراسة، ودعوا لي بالتوفيق.

بعد شهور أخرجتُ ألبوم صور العائلة القديم، وعلى وجه التقريب كان ثلث صور الألبوم لموتى، وهي الصور التي تكتسب فقط بمعلومة الموت، ودون صور الأحياء، حضوراً طاغياً. الجسر تحت أقدام ابن عم والدي، أعواد ثقاب لا تصمد في البحر، والبحر تافه في حضور وجه المفقود وقامته، وزوجته إلى جواره غائمة تنتظر معلومة الحضور.

كنتُ تحت وطأة امتحان دراسي. سألتُ المُراقب إن كان من الممكن إجابة جميع الأسئلة بشكل غير مُباشر. قال لي: وهل جميع الأسئلة تحتمل الإجابة غير المُباشرة. قلتُ له: بصعوبة شديدة يُمكن هذا.

تركني المُراقب، واستأذن من زميله، وخرج من القاعة. بعد وقت وجدتُ نفسي جالساً في غرفة أشبه بغرفة إدارة. كان زجاج التافذة مغلقاً، وشعاع الشمس ينفذ صافياً على سطح مكتب كبير يجلس خلفه رجل عجوز تدخل رأسه الكبيرة بين الحين والآخر في مجال شعاع الشمس عندما يميل إلى الأمام، فيشتعل محيط الأذن بحُمرة قوية، وتظهر لُكْشة شعر كثيفة في سُرَّتها.

قال الرجل العجوز: على الرغم من استمتاعي بإجابتك غير المُباشرة إلا أنه لا مفر لي من فصلك بعد السقوط الثالث. كانت عيناي لا تُفارق أذنه المشتعلة بالضوء. بعثوا رسالة الفصل على عنوان إقامتي. ذهبتُ مُباشرةً إلى بيت عمتي التي أعلمتْ والدي أنني عندها.

زوج عمتي طاحونة طعام. كِرْشه كامل التدوير، ودائماً يجلس بفانلة داخلية شديدة البياض، ناعمة، تلم كِرْش الجيلي وتحبكه. بشرة ثانية. تختفي نهاية الفانلة داخل أستك البنطلون. في واحدة من الفانلات العديدة، ثقب مثل شظية، تستقر على قمة الكِرْش. راقبتُ دورة الفانلة. يستغرق الثقب سبعة أيام، للعودة مرة أخرى على قمة الكِرْش. اخترتُ سكيِّن عمتي الكبير بمقبضه الأسود.

كان زوج عمتي يأكل كِرْشَة بالدِمْعَة والحُمص. كان كِرْشه في مجال رؤيتي. وكانت عمتي في المطبخ. وكان هدفي هو الثقب على قمة كِرْشه. قام زوج عمتي من على منضدة الطعام. اندفعتُ من عند غرفتي بسن السكيِّن، ولسوء الحظ خايلتني نقطة دِمْعَة الكِرْشَة على منتصف الكِرْش، فجاءتْ الطعنة العميقة غير مُباشرة، بعيدة قليلاً عن ثقب الفانلة.