الفيلسوف الإيطالي نوتشيو أوردينه.(أرشيف)
الفيلسوف الإيطالي نوتشيو أوردينه.(أرشيف)
الإثنين 21 يناير 2019 / 19:16

المعرفة والربح

من لا يفقه لزوم ما لا يلزم ويقول ما يلزم لا يفقه من الفن شيئاً

لا يشق على «دار الجديد» أن تجاهر بأن كتاب نوتشيو أوردينه الذي اختارت له عنواناً لافتاً «لوجه ما لا يلزم» نُقل عن الفرنسية لا الإيطالية لغته الأصلية، ثم لا يشق عليها أن تجاهر بأنها عمدت الى التلخيص الذي لا تظن أنه يُسيء الى كتاب اعتبره صاحبه بياناً. عنوان الكتاب «لوجه ما لا يلزم لأوردينا يتبعه نص آخر لإبراهيم فلكستر بالعنوان نفسه تقريباً «في لزوم المعارف التي لا لزوم لها» ولا يخفى بالطبع أن العنوانين يستوحيان من قريب عنوان المعري الساطع «لزوم ما لا يلزم».

الكتاب بيان بحق وإن شئنا أن نزيد التلخيص تلخيصاً قلنا أن غاية الكتاب أن يحمي المعرفة من أن يكون غرضها الجدوى والنتيجة، أي أن يكون ما ينتج عنها من نفع عملي هو غايتها الأولى. وبلغة صاحبه فإنه الربح، منطق الربح ينبغي أن لا يسود أو يطغى فهذا يحرف المعرفة عن غايتها الأولى بل «يؤدي» لاستعلاء المنطق الربحي على سواه، أو «تقويض أسس المؤسسات والمرافق التي يفترض بها أن ترعى هذه المعارف والعلوم في منأى عن هاجس الربح الآني ووسواس الاستخدام العملي». بالطبع يمكن «للمتاحف والمواقع الأثرية أن تدر عوائد مالية لا يستهان بها غير أن السبب الموجب لإنشاء هذه المتاحف ليس في الجدوى بالمعنى التجاري منه».

ذلك يجري على الفن كما يجري على العلم، فقد قال يونيسكو أحد رواد المسرح الحديث المسمى بمسرح العبث «من لا يفقه لزوم ما لا يلزم ويقول ما يلزم لا يفقه من الفن شيئاً أما ريلكه وهو من كبار الشعراء الألمان فقال٬ لا يكون الفنان فناناً حقاً إلا متى أعرض عن الحساب والإحصاء».

وفضلاً عن يونيسكو وريلكه فقد ذم الشاعر الإيطالي الذي يشكل علماً من أعلام النهضة الإيطالية بترارك «الحثالة التي لا هم لها إلا تكديس الثروات» وقبل بترارك قال أرسطو أن الفلسفة هي دون العلوم جميعها العلم الذي يصدق فيه وصف الحرية باعتبار أن مداره على نفسه ولا موضوع له إلا ذاته». أما كانط الفيلسوف الألماني فقال «إن الذوق ملكة تقدير... بصرف النظر عن أي منفعة» وسبق أن أمضى ليوبارد الشاعر الإيطالي عامين في العمل على إصدار مطبوعة أسبوعية «لا لزوم لها ولا جدوى منها». أما غارسيا لوركا الشاعر الإسباني الذي اغتاله أنصار فرانكو فقال في تقديمه لبابلو نيرودا «إن المرء الذي تصيبه لوثة الشعر إنما يجرد نفسه من بعض ما تدافع به نفسه عن نفسها».

يتوجه أوردينيه إلى ما يصيب الجامعات من تنكر للغات القديمة وعلوم اللغة، فقه اللغة، وعلم النصوص القديمة، مما سيؤدي بعد تقاعد علماء هذين العلمين إلى إفقال عدد من المكتبات والمتاحف مما يهدد «بامحاء ذاكرتنا... إلى أن نفقد هذه الذاكرة بالكامل ومعها التراث وقديماً قال غوته الألماني «لا نتعلم إلا ما نهوى ونحب وبمقدار ما يقول هوانا... تكتمل معرفتنا وتزداد عمقاً".

المكتبات الجامعية في خطر فاللجوء الى خفض النفقات يجعل الجامعات تغلق مشاريع وتضيق على المكتبات، كما أن المكتبات العامة تقلص المساحات التي تخصصها لكتب التراث. لم يكتب ارخميدوس كلمة واحدة عن اختراعاته وكان اعتداده بأبحثاه أكبر من اعتداده بها.

أما ابراهام فلكستير فيستنتج من قصة الكهرباء، قصة مايكل فاباردي ابن الحداد الذي قبل سيرديفي ملاحظاته وجعل منه مديراً لمختبر المعهد الملكي ولم يبال فباردي ذرة واحدة بالوجه العملي النفعي لأبحاثه واختراعاته مستغرقاً هكذا في أسرار الكون.