فلسطينيون يرشقون جنوداً إسرائيليين بالحجار.(أرشيف)
فلسطينيون يرشقون جنوداً إسرائيليين بالحجار.(أرشيف)
الإثنين 21 يناير 2019 / 19:23

براقشيون... النسخة الفلسطينية

صار سهلاً علينا تخوين بعضنا بل وتخوين جموع شعبنا لمجرد امتناع البعض عن التصفيق، وصار واجباً شرعياً على بعضنا تكفير المتمسكين بفلسطينيتهم والذين يقدمون هويتهم الوطنية على أي انتماء آخر ويقترفون إثم رفع العلم الفلسطيني!

في مقالته المنشورة في هذا الموقع بعنوان "وراء الاحتفالات الصاخبة" كان الصديق الأستاذ نبيل عمرو موجعاً في اعترافه باليأس، وهو المتفائل دائماً، فقد عم السواد ساحة فلسطينية كانت في ما مضى مشعة بالأمل، ووئد الحلم بالحرية في الوطن الذي كان مسيجاً بالفداء وصار محاصراً بالاتفاقات والمفاوضات والمبادرات والتناحر الفصائلي والانقسام وضياع الفعل والصوت والهيبة.

عقدان من تطليق الثورة والدخول في النفق السياسي كطريق وحيد وترسيخ مؤسسة الفساد كانا كافيين لجعل هذا الخراب أمراً وقعاً، بل أمراً لا مفر منه إلا بالفكاك من الارتهان للخطاب الفصائلي البائس، والبحث عن جذوة الأمل في الناس، في البيوت والحواري في المدن والمخيمات والقرى، فهؤلاء هم الذين يحفظون ألوان العلم ولا يستبدلونه بخرق الرايات الفصائلية، وهؤلاء هم الذين ينجبون مقاومين لا مقاولين يتكسبون من ترويج الوهم ويتاجرون بالخطاب الكاذب.

نشكو من التقصير العربي ونحن مقصرون أكثر، ونعارض التطبيع ونتمسك بالتنسيق الأمني ونفتي بالتهدئة الأمنية مع الاحتلال، وكأن العلاقة مع المحتل مطلب وطني يخون قضيته من يشذ عنه، ويصبح خارجاً عن الإجماع وربما عن الملة من يكفر بواقع الاحتلال ويتحداه بحجر أو بسكين.

في سجون سلطتينا عشرات إن لم يكن مئات من الخارجين عن النص السلطوي والذين يجاهرون بمقاومة الاحتلال والفساد، وبرعاية هذه السلطات وحمايتها يتم تهريب الجواسيس وسماسرة العقار المقدسي. وفي جغرافية دولتنا العتيدة حرب ضروس بين السلطتين ورموزهما، وعلى أرض الدولة لا حرب مع العدو!
في إعلامنا مفردات جديدة ومبتكرة لتعزيز الخطاب الشتائمي، وفي إعلامنا أيضاً تأكيد على ضرورة السلام، ليس بيننا، ولكن مع المحتل الغريب.

صار سهلاً علينا تخوين بعضنا بل وتخوين جموع شعبنا لمجرد امتناع البعض عن التصفيق، وصار واجباً شرعياً على بعضنا تكفير المتمسكين بفلسطينيتهم والذين يقدمون هويتهم الوطنية على أي انتماء آخر ويقترفون إثم رفع العلم الفلسطيني!

نفعل كل ذلك، ثم نعلن معارضتنا لصفقة القرن، وتستفزنا صراحة رئيس أمريكا في انحيازه السافر لإسرائيل وجنوحه إلى كسر التابوهات السياسية وسطوه على حقوقنا.

ما الذي أوصلنا إلى هذا الحال من التردي واليأس؟

يختار الكتاب والمحللون الذين يرتدون ربطات عنق فرنسية وهم يقرؤون المشهد الفلسطيني ويتحفوننا بنظريات عبقرية عن خلق البيئة المناسبة لاستئناف العملية السياسية، يختار هؤلاء أن يجيبوا على السؤال الصعب بكلمات من نوع "لا أعرف على وجه الدقة"، "هناك أكثر من احتمال"، "النتائج مرهونة بالظروف والمتغيرات"، وهذر كثير يستهلك اللغة ويجردها من المعنى. أما الذين يمتلكون الجرأة في التعبير فإنهم ممنوعون من القول أصلاً. لذا يظل الخطاب السائد يراوح بين تذكيرنا بأننا في عنق الزجاجة السياسية، وتنبيهنا إلى أن المخرج من هذا المأزق ليس بكسر الزجاجة أو على الأقل عنقها، وإنما بالدعوة إلى تفعيل مبادرة السلام العربية.

ملّ الناس ولم يعودوا قادرين على التعاطي بجدية مع هذا الهذر وهم يرون الأرض تؤكل شبراً شبراً، ويودعون فتيتهم وشبابهم الذاهبين إلى المجهول في هجرات محفوفة بالمخاطر في بلاد الله وفي البحار التي لا تشبع من غرقاناً.

لم يعد هناك أحد قادر على الاستماع إلى تصريح أو بيان كامل، ولم يعد هناك أحد يصدق خطاب السلام العباسي وخريطة الطريق الحمساوية إلى الجنة. وإذا كانت القنوات الفضائية تنقل هذا الهذر نقلاً حياً ومباشراً فإنها تفعل ذلك لملء الهواء بأقل الكلف.

نعيد إنتاج براقش، وصار لدينا جيش من البراقشيين يجنون على أنفسهم... وعلينا أيضاً. ولا بديل لهذا الخراب غير العودة إلى التراب.