رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي.(أرشيف)
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي.(أرشيف)
الأربعاء 23 يناير 2019 / 19:42

المصير التراجيدي

الاقتصاد العالمي بدأ في التصرف على أساس أن بريطانيا لا تملك القدرة على تنفيذ خروج مُنظَّم من الاتحاد الأوروبي. الخروج الفوضوي، هو القريب من أرض الواقع، ولهذا قررت شركة هيتاشي اليابانية العملاقة، تجميد مشروع نووي بقيمة ثلاثة تيرليونات ين

من حق الاتحاد الأوروبي أن يتعامل مع الدراما المسرحية الصاخبة بين رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وبين البرلمان الإنجليزي، على أنها دراما مُفتَعَلَة، ميلودرامية، والمقصود منها، هو هروب بريطانيا من دفع فاتورة الخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما يستنكر آخرون من زاوية رؤية أكثر شمولاً، وأكثر رحمة على عزيز قوم ذل، صفة الميلودراما في مسرحية "البريكست"، بل يصفونها بمسرحية تراجيدية.

فبعد نجاح البرلمان البريطاني في إسقاط اتفاق تيريزا ماي، قالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل: على تيريزا ماي أن تتنازل عن خطوطها الحمراء. عبارة المستشارة أنغيلا ميركل، تعني تجاهل الانقسام المسرحي بين رئيسة الوزراء، وبين البرلمان، وترى المشكلة في غرور بريطانيا العظمى التي ما زالتْ تعيش في ماضي الإمبراطورية، وهو ماض كانت بريطانيا تحصد فيه نصيب الأسد.

المُفَارَقَة أن بريطانيا كلما زاد ضعفها، كلما ضغط عليها، هوس استعادة المجد الغابر للإمبراطورية. استعادة مجد التاريخ على الدوام، مُحَاوَلَة حمقاء. وهذا يُفسر، قبل سنتين، استدعاء ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء السابق، للشعب الإنجليزي، ليقول كلمته في استفتاء عام.

بعنجهية أرادتْ بريطانيا المزيد من الامتيازات في الاتحاد الأوروبي، وكأنها تعتبر أن الاتحاد الأوروبي من غيرها لا قيمة له، فهددتْ بورقة الاستفتاء، أي أنها استدعتْ فجأة الشعبوية داخل أروقة السياسة. والنتيجة كانت كارثية. أصبحتْ بريطانيا العظمى، مثل دولة صغيرة، عالقة في حبال الاتحاد الأوروبي، وتريد الخلاص.

الاقتصاد العالمي بدأ في التصرف على أساس أن بريطانيا لا تملك القدرة على تنفيذ خروج مُنظَّم من الاتحاد الأوروبي. الخروج الفوضوي، هو القريب من أرض الواقع، ولهذا قررت شركة هيتاشي اليابانية العملاقة، تجميد مشروع نووي بقيمة ثلاثة تيرليونات ين "28 مليون دولار"، لتحديث المفاعلات البريطانية النووية القديمة.

وكانت شركة توشيبا اليابانية قد استبقتْ شركة هيتاشي، وألغتْ مشروعها للطاقة النووية العام الماضي. كما أعلنتْ المؤسسة العامة الصينية للطاقة النووية، بأنها تعتزم تقديم موعد خططها لبناء محطة نووية في بريطانيا.

الكوميديا السوداء على الأرجح، أن رئيسة الوزراء تيريزا ماي في لقاء مع نظيرها، رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، وقبل أيام قليلة من هزيمتها المدوية في البرلمان، تطلعتْ إلى اتفاق تجاري طموح مع اليابان.

كما حذَّرت جمعية البنغلاديشيين (BCA) التي تمثل 12 ألف مطعماً بنغلاديشياً، يُقدِّم الكاري البنغلاديشي، المُنافس للكاري الهندي، في طول بريطانيا وعرضها، من انهيار صناعة بأربعة مليارات جنيه استرليني، بسبب التكلفة الباهظة، المُضَاعَفَة، لجلب الطهاة من بنغلاديش إلى بريطانيا، بعد زلزال "البريكست".

وأعلن أيضاً إدوارد فيليب رئيس الوزراء الفرنسي، أن فرنسا وضعتْ خطة طوارئ بـ 50 مليون يورو تحسباً لخروج بريطانيا الفوضوي من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس (آذار) 2019. والخطة ستكون بهدف مساعدة الموانئ والمطارات من الطوابير الطويلة، وحماية صيادي الأسماك الفرنسيين، والشركات الفرنسية.

هناك سؤال ربما لم يستطع الاتحاد الأوروبي إعلانه، وهو لماذا نجح البرلمانيون البريطانيون في إسقاط اتفاق تيريزا ماي، وفشلوا في إسقاط تيريزا ماي نفسها؟ السؤال من الحدة والنزاهة والصراحة، بحيث يصعب على الاتحاد الأوروبي طرحه على بريطانيا. يكتفي الاتحاد الأوروبي بالتلميح فقط، ولهذا تكتفي بريطانيا بالمماطلة فقط. شجاعة المُوَاجَهَة تفتقدها بريطانيا، كما يفتقدها الاتحاد الأوروبي.

صعوبة "البريكست" تكمن في العولمة التي لم تكن تفترض أن تُرفض في المستقبل من أحد أطرافها، بأي شكل من الأشكال. خطوة نكوص واحدة إلى الوراء، فإذا بالعولمة تُعاقب الجميع، الطرف الذي أعلن تمرده، لكن أيضاً الأطراف الملتزمة بميثاق العولمة. سيكون على العالَم بسبب عقاب العولمة، أن يخترع الحياة مرةً أخرى، الأسواق، التعاقدات، السلع الغذائية، تكنولوجيا المعلومات، الاتصالات، تنقل الحيوانات الأليفة، عربات الشحن، الجمارك، الأدوية، الهجرة، اللجوء، ميزانيات المستشفيات والجامعات.

كررت تيريزا ماي، بأن الشعب البريطاني قال كلمته عبر الديمقراطية في استفتاء 2016، ويجب على الحكومة الالتزام بتنفيذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن من جانب آخر، السيدة ماي تتحايل على الديمقراطية، وتنفذ خروجاً غامضاً قد يعني في كثير من بنوده البقاء تحت رحمة الاتحاد الأوروبي.

أمَّا البرلمان البريطاني المُنتخب، فهو يريد صراحةً رمي ورقة الاستفتاء الأولى، والدعوة إلى استفتاء ثان. القاعدة تقول: إذا كُسِرَتْ الديمقراطية مرةً، تُكْسَر في المستقبل مرات عديدة.
أشار ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، أن أحد السبل للمضي قدماً هو قبول بريطانيا بقواعد الاتحاد الأوروبي، لضمان الحصول على علاقات تجارية وثيقة في المستقبل.

 على سبيل المثال، تتخلى بريطانيا عن رغبتها في مُغادرة الاتحاد الجمركي والسوق المُوحدة. وأشار أيضاً دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي إلى أن الانقسامات في بريطانيا قد تقود إلى إلغاء خروجها من الاتحاد الأوروبي.

بريطانيا مثل البطل اليوناني التراجيدي، ستقابل مصيراً مُفجعاً، لكن بريطانيا برغبتها وإرادتها، هي مَنْ تحركتْ لهذا المصير، وكأنها رفضتْ انتظاره، فأوهمتها الحركة بإمكانية تغييره، مع أنه مصير واقع لا محالة، كما أنبأتها عرَّافة دلفي.