محتجون مصريون (أرشيف)
محتجون مصريون (أرشيف)
السبت 26 يناير 2019 / 18:30

25 يناير وروح الصراع

تحل في هذه الأيام ذكرى أحداث 25 يناير والثورة التي قامت في جمهورية مصر العربية وسقوط نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وما تلى ذلك من أحداث جسيمة، سنحسن إلى أنفسنا عندما نتذكرها بوضوح ونحللها بعقل، لا بعاطفة. الأسئلة الفلسفية تبدأ دائماً من الأصول، فعلام كانت الثورة؟ هل كانت ثورة جياع.. أم ثورة لتحسين الأوضاع؟.

المجاعة كارثة كبرى ولا يمكن أن نطالب أحداً بأن يستمع لصوت العقل عندما تصل الأمور إلى هذا الحد، لكن الذي نعرفه أن مصر "أم الخير" وابنة النيل لم تكن في مجاعة، هناك فقر وبطالة تحتاج إلى حل، والحل في تحسين الأوضاع، إنه حل يحتاجه كل فرد وكل دولة، فهو مبدأ سليم ومطلب عادل يستحقه الجميع، لكن هل الثورة هي السبيل لتحقيق هذه الغاية النبيلة؟ هذا ما حسمه كارل ماركس بفلسفته التي اعتبرت بشكل جوهري أن كل المجتمعات الإنسانية تتطوّر بواسطة الصراع بين الطبقات الاجتماعية، صراع بين طبقة أصحاب رؤوس الأموال المتحكمين بالإنتاج من جهة، و طبقة العمال الذين يعملون لإنتاج السلع، من جهة أخرى.

لم يتصالح ماركس مع النمط الاقتصادي الاجتماعي السائد في معظم دول العالم، ما يعرف باسم الرأسمالية، بل كان يصفها بأنها دكتاتورية البورجوازية، أي الطبقات الغنية التي تتحرك من أجل منفعتها المحضة. هذا السلوك، من وجهة نظره، سيولد توترات داخلية تقودها إلى التدمير الذاتي. ما هو البديل؟ إنها الطبقة العاملة في ما سمَّاه: دكتاتورية البروليتاريا، أو دولة العمال، أو ديمقراطية العمال، حيث يسقط عن كل إنسان حق الملكية، فتكون الأملاك في يد الدولة، ولا يحق للفرد فتح دكان في زاوية بيته. هذه الحكم ليس النهاية، فنهاية المشروع الفلسفي الماركسي، بعد عدة مراحل تفصيلية، هو مجتمع بدون دولة ! هو الشيوعية في أقصى تجلياتها. بالنسبة لماركس لم تكن هذه مجرد أفكار، بل حتمية، مسار تاريخي على طريقة الفيلسوف الألماني هيغل، لكنه سيؤدي في نظر ماركس إلى انتصار الاشتراكية والشيوعية، هذا الانتصار لا يكون عن طريق الإصلاح، بل عن طريق الثورة الدموية والقتال للإطاحة بالرأسمالية والقيام بتغيير اقتصادي اجتماعي. ثم قامت الثورة الشيوعية في روسيا (فبراير1917) بعد 34 عاماً من وفاة ماركس، ثم ثورة أكتوبر، ثم الحرب الأهلية الروسية، وقيام الاتحاد السوفييتي، دولة القمع الرهيب التي كانت، والحزب الشيوعي الذي غرق أعضاؤه الكبار في نعيم المال والسلطة ونفس الممارسات التي ثاروا عليها، إنها طبيعة الإنسان.

ما علاقة هذا بثورة 25 يناير 2011 في مصر؟ إنها نفس القصة، وقد أصبح العرب كلهم يكررون نفس المصطلحات التي كانت تستخدم أيام الثورة الروسية، بما في ذلك: الثورة والثورة المضادة. الذي يختلف ولا يختلف، أن الذي قفز على السلطة في مصر، ليس الماركسيين وإنما هو التيار الديني السياسي، المسمى بجماعة الإخوان المسلمين، لعلهم أكثر من استفاد من التجربة الماركسية-اللينينية في العالم العربي، حتى فيما يتعلق بالتنظيم العنقودي الذي أسسه لينين لأفراد الحزب، بحيث يكون لكل مجموعة صغيرة قائد يتصل بالقيادة العليا التي لا يعرفها الأفراد. مع هؤلاء تكررت نفس القصة، نفس القمع ونفس الاستئثار بالسلطة ونفس الإطباق على الموارد لمصلحة الحزب ونفس استبعاد الأحزاب الأخرى وخنق المعارض. وهكذا ستسمر القصة ما دام أن هناك من يدعم الخط الثوري.

لقد كانت غلطة ماركس أنه لم يتصور طبيعة الفروق بين البشر، هناك أناس لديهم القدرة على أن يكسب في سوق الأسهم مثلاً، في حين يخسر الجميع دون أن يكون متنفذاً، ولا صاحب سلطة، هل هو ذكاء أم حظ؟ هذه قضية أخرى. وهناك أناس وسط، مثل أكثرنا، يُحسن أن يؤدي عملاً فيتقاضى عليه مرتباً يكفيه إلى نهاية الشهر، وهناك أناس عالة على الآخرين لا يحسنون شيئاً. وهكذا، فمن الجور أن نجعل الناس سواسية يتقاضون نفس القدر من المال، بقوة النظام. غلطة أخرى لماركس، عندما رفض مبدأ الملكية الخاصة، هذا يتعارض بشكل جوهري مع الطبيعة الإنسانية، فكل إنسان يحب أن يتملك الأصول التي تكون سنداً له في حياته. لكن غلطته القاتلة، هي أنه ادعى أن الإصلاح لا وجود له، ليس ثم إلا الثورة، فأنشأ بذلك أجيالاً تحقد على الدولة، دون أن تملك أدنى فكرة عما تريده من الدولة، أناركية مجردة.

لقد رأينا خلال الثمان سنوات الماضية بأم أعيننا ما فعلته بنا الثورة. غابت صورة العالم العربي المسالم الوادع، وحلت في عدد من الدول الحروب والتمزق واستحكمت الكراهية والطائفية، وأصبحت الدول العربية مطمعاً للدول الإقليمية المجاورة وحلت محل الأمن "سنوات الخوف"، هو نفسه اسم السنوات التي عاشتها فرنسا منذ قيام الثورة فيها سنة 1789 وحتى قفز نابليون بونابرت على السلطة و"طهر الشوارع بنفخة من مدفعه"، بحسب تعبير المؤرخ الاسكوتلندي توماس كارلايل في كتابه "تاريخ الثورة الفرنسية"، ذهب قيصر وحل محله قيصر آخر. الثورة لم تكن في يوم من الأيام وسيلة ناجعة لأي مشكلة، الثورة لا تعني شيئاً، إلا أن هناك دماء كثيرة سوف تُراق، ولا شيء أكثر.