السبت 26 يناير 2019 / 18:43

التاريخ المُظلم لمرض الإيدز

لا نعلم بالتحديد متى بدأ مرض نقص المناعة المكتسبة بالظهور عند الإنسان، لكن ما نعلمه أنه كان يفتك بالرُتب العليا من الحيوانات كالشامبانزي، والتي لم يُعرها الإنسان الأفريقي كثيراً من الاهتمام، فلقد كان عنده ما يكفي من هموم الحياة وتحديات الطبيعة المتجددة. انتقل الفيروس المُعدّل من الحيوانات إلى الصيادين -عن طريق الدم الملوث- والتي عبرت نهر السانغا في الكاميرون، لتدخل من هناك إلى دولة زائير أو ما يُسمى اليوم باسم الكونغو، في عام 1959 تُوفي مريض بعدوى غير معروفة، وفي منتصف السبعينيات تم تسجيل حالات وفاة غير طبيعية لعدة أشخاص في نفس المنطقة، وهذا ما دفع العلماء إلى وضع نظرية الأصل الأفريقي للمرض.

في الجانب الآخر من العالم، شهدت السواحل الأمريكية وفيات مرعبة بسبب مرض سرطاني نادر kaposi sarcoma يصيب الذكور المِثليين، وأخذت الصحف الطبية تنشر تقارير عن حالات رجال مثليين يُصابون بأنواع غريبة من العدوى، وتمت تسمية المرض باسم نقص المناعة المتعلقة بالمثليين. تم تغيير الاسم عندما ظهرت حالات مماثلة عند مدمنين حُقُن الهيروين بل وعند المتزوجين، ووُجهت أصابع الاتهام إلى سكان جزر هاييتي الذين اُعتبروا سبباً من أسباب تفشي مرض الإيدز في الولايات المتحدة.

انتشر الهلع في المجتمع الأمريكي، وامتنع سائقو سيارات الأجرة من توصيل أي شخص تظهر عليه علامات اعتلال الصحة، ورفض الناس مشاركة الحمّامات مع مرضى الإيدز، وأُخرج كثير من المرضى من أماكن سكنهم، ووضعت بعض المستشفيات لافتات على أبواب مرضى غرف الإيدز وقد كُتب عليها (تحذير: لا تدخل). كان مريض الإيدز منبوذاً لا يعيش أكثر من عامٍ واحد، وقتَل المرض من الأمريكان أكثر مما قتل مقاتلو فيتنام بعشر أضعاف؛ حيث وصل رقم الوفيات إلى أكثر من مليون إنسان.

أما في أفريقيا وتحديداً في جنوب الصحراء، الأشد فقراً وجهلاً وتخلفاً، تيتم 12 مليون طفل بسبب الإيدز، وحظيت دولة جنوب أفريقيا بنصيب الأسد من الإصابات الفيروسية بسبب إنكار رئيسها لوجود مرض الإيدز، ونصحت وزير صحته المرضى بالعلاج بالبطاطس الحلوة، وبقيت البلدان ذات الأغلبية المسلمة في أدنى سلم الإصابات بالفيروس مقارنة مع باقي بلدان العالم، ربما بسبب الاعتبارات الدينية والاجتماعية التي تحظر المثلية وممارسة الجنس خارج نطاق الزواج حظراً صارماً.

تمكن العلماء من تصنيع أول عقار لمرض نقص المناعة في عام 1987 وهو عقار zidovudine، وتم بيعه بسعر خيالي لا يطيقه أغلب المرضى، خصوصاً في البلدان الفقيرة، وبسبب قانون براءة الملكية الفكرية، واجه تصنيع الدواء في الدول الفقيرة صعوبات سياسية وقانونية كثيرة، فجاء حُكم مؤتمر منظمة التجارة العالمية في عام 2001 لصالح تلك الدول، حيث سُمح بتصنيع الدواء الأصلي عند وجود حالة طوارىء في تلك الدولة، وذلك مقابل رسم ملكية لصاحب براءة الاختراع.

قد لا يعلم الكثيرون، أن أحد أسباب تفشي الفيروس هو الإنكار الساذج والصمت المُطبق والجهل الجماعي، كما تقول "ماديلون فينكل" في كتابها (الحقيقة والأكاذيب في قضايا الصحة العامة)، فحتى الرئيس الأمريكي المحافظ ، رونالد ريغان، لم يُبد تعاطفاً مع مرضى الإيدز، حيث دعا الجمهور إلى عدم الهلع بسبب انحصار المرض في المثليين ومدمني المخدرات، وركز في خطابه على تعليم العِفّة وعدم الإسراف في ممارسة الجنس، كان الجمهور بحاجة إلى أمانة شديدة في عرض الحقائق في مقابل الخرافات التي تسيدت ملابسات المرض وأدت إلى فصل موظفين من أعمالهم وحرمان أطفال من حصصهم المدرسية رغم عدم ثبوت انتقال المرض بالملامسة والمصافحة والمقابلة، ورغم كونه مرضاً لا ينحصر انتقاله بالجنس المِثلي، بل قد ينتقل بعمليات نقل الدم وقد تنقله المرأة الحامل لولدها والزوج لزوجته.

لعل في قصة هذا المرض درساً لنا وللأجيال السابقة، أن لا نضع الأفكار المسبقة والتحيزات الشخصية فوق الاعتبارات العلمية.