مستوطنون وجنود إسرائيليون.(أرشيف)
مستوطنون وجنود إسرائيليون.(أرشيف)
الأحد 27 يناير 2019 / 19:13

من السجن يخرج المستوطنون الملوك

إلى جانب مركزيتها المتنامية في الحقل السياسي الإسرائيلي، تقوم مستوطنات الضفة الغربية، ومدارسها الدينية على نحو خاص، مقام الدفيئة الأيديولوجية لاستيهامات عنصرية متطرفة، ونزعات قيامية لا تعادي العرب وحسب، بل وتسعى لنقض هوية الدولة الإسرائيلية، أيضاً

تُعتبر جريمة قتل عائشة الرابي، في مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وسيلة إيضاح مثالية لعنف المستوطنين. المذكورة أم لثمانية أطفال، كانت في طريق العودة إلى البيت قرب قرية سلفيت في الضفة الغربية، عندما قذف المستوطنون مركبة تستقلها بصحبة زوجها، وابنتها البالغة تسعة أعوام، بوابل من الحجارة، ما أدى إلى مصرعها بإصابة مباشرة في الرأس.

وقبل أيام أصدرت السلطات القضائية الإسرائيلية لائحة اتهام ضد الفاعل الرئيس، وهو فتى في السادسة عشرة من العمر، ووصفت الاعتداء على الرابي بالعمل الإرهابي، الذي يستمد دوافعه من العنصرية وكراهية العرب. والواقع أن تعبير "الإرهاب اليهودي" مُتداول لدى السلطات القضائية، وفي جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي توجد وحدة خاصة مُكلّفة بملاحقته.

وللوهلة الأولى، يبدو أن هذا النوع من الإرهاب، كأي إرهاب آخر في مناطق مختلفة من العالم، يتجلى في أعمال فردية، وينحصر في جماعات متطرفة، ويخضع لرقابة وملاحقة الشرطة، وأجهزة الأمن. ولكن الوضع، في الضفة الغربية، أكثر تعقيداً، ولا يحتمل هذا القدر من الاختزال والتبسيط.

ففي الضفة الغربية ثمة ما يزيد، حسب آخر الإحصاءات، على 834 ألفاً من المستوطنين، في 515 مستوطنة وبؤرة استيطانية. يعيش هؤلاء تحت حماية الجيش الإسرائيلي على مدار الساعة، وفي مجرّد وجودهم على أرض انتزعت من أصحابها الشرعيين بالقوّة ما يُمثّل عنفاً وجودياً ومادياً على مدار الساعة، أيضاً، حتى وإن تصرفوا كمَن يسعى للحصول على جائزة نوبل للسلام.

وما أدراك إذا كان في تصرفاتهم اليومية ما يُترجم ويُكرّس هذا العنف فيما لا يحصى من التفاصيل الكبيرة والصغيرة: إحراق وسرقة المحاصيل الزراعية، وسرقة الماشية، وقطع الأشجار المُعمّرة، وإغلاق منافذ الطرق، والاعتداء على القرى، وإعطاب السيّارات أو رشقها بالحجارة، وكتابة شعارات عنصرية على الجدران، ومنع المزارعين من الوصول إلى حقولهم، أو جنى محاصيلهم، كما يحدث، مثلاً، في موسم قطاف الزيتون.

وعلاوة على ما تقدّم، يشاركون الجيش الإسرائيلي في أعمال التنكيل بالفلسطينيين، كما حدث يوم أمس، السبت، في محاولة اقتحام قرية المغير، شرق رام الله، التي نجم عنها مصرع فلسطيني في الثامنة والثلاثين من العمر، وهو أب لأربعة أطفال، وإصابة ثلاثين آخرين بالرصاص الحي.

وما يستحق التذكير، في هذا الصدد، أن الأعمال الإرهابية، أي التجليات المختلفة لعنف المستوطنين، تحظى بدعم أوساط اجتماعية وسياسية نافذة في المجتمع والحكومة الإسرائيلية. فبعض الوزراء يقيم في المستوطنات، التي تشكّل، أيضاً، قاعدة انتخابية تسعى لكسب ودها، والفوز بها، أحزاب وقوى معسكر اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل.

وإلى جانب مركزيتها المتنامية في الحقل السياسي الإسرائيلي، تقوم مستوطنات الضفة الغربية، ومدارسها الدينية على نحو خاص، مقام الدفيئة الأيديولوجية لاستيهامات عنصرية متطرفة، ونزعات قيامية لا تعادي العرب وحسب، بل وتسعى لنقض هوية الدولة الإسرائيلية، أيضاً، لأنها لا تقوم على مبادئ الشريعة اليهودية.

ولعل في هذه الحقيقة دلالة إضافية تبرر الكلام عن مقتل عائشة الرابي كوسيلة إيضاح مثالية تختزل أشياء كثيرة، وتُسهم في تفسيرها. فحاخام صفد، مردخاي الياهو، لم يُدافع عن قاتل الرابي وحسب، بل وبيّن لطلاب المدرسة الدينية، التي يدرس فيها القاتل وزملاؤه، أن في اعتقالهم من جانب الشرطة مزايا كثيرة، أيضاً، لأن السجن طريقهم إلى قيادة الدولة. "من السجن يخرج الملوك". هذا ما قاله لهم.

لا يتسع المجال، هنا، لسرد تفاصيل كثيرة، وتحوّلات تغطي ما يزيد على نصف قرن من الاستيطان اليهودي الإسرائيلي في الأراض المحتلة بعد 1967، كل ما في الأمر أن ثمة أسئلة مفتوحة، إذا استمر الحال على هذا المنوال، ينبغي ألا تغيب عن ذهن أحد:
متى وكيف سيفلت الوحش الذي نشأ وترعرع في دفيئة المستوطنات من قبضة الرقابة، وآليات الضبط والتقنين، التي تمارسها سلطة الدولة الإسرائيلية، ليعلن حرباً مفتوحة على الفلسطينيين تختلف، كمّاً ونوعاً، عمّا عرفناه حتى الآن؟ وهل سيحدث ذلك بالتواطؤ بينها وبين "ملوك خرجوا من السجن"، أم بانقلابهم عليها؟