الروائية دلع المفتي (أرشيف)
الروائية دلع المفتي (أرشيف)
الجمعة 1 فبراير 2019 / 18:38

دلع المفتي

لا تتجسد القسوة والبشاعة فقط في استغلال المرض للضغط على المرء للتراجع عن آرائه ومعتقداته، وهو الذي ستتكالب عليه في ذلك الحين جميع عقد الذنب المزروعة في داخله، والشكوك التي ستطارده من كل شيء. بل تكاد تكون خسة ودناءة في بعض الحالات

طالما شكّل المرض هاجساً شخصيا مؤرقاً لي بسبب الثنائية الشريرة للعجز والألم. بالإضافة إلى خوفي من الاضطرار لنشر الصورة الإلزامية لإبرة المغذي المنبثقة من وريدي.
  
ولكن منذ بدأت رحلة الكاتبة والروائية دلع المفتي مع "مقصوف الرقبة"  -كما تصفه- السرطان، اكتشفت بأن الخوف الحقيقي يجب أن يكون من النسور الجائعة التي ستتحلق من حولي، لأنها قد قررت مسبقاً بأني أصبحت جثة هامدة، فستحاول أن تحدد لي كيفية التعايش مع المرض، وكيفية التصالح معه، بل وبأي وجه أستسلم للموت الذي قد يجلبه معه.

على غرار الأستاذة دلع، أتخيل بأنهم سيطالبونني بـ"التوبة إلى الله قبل فوات الأوان"، والتراجع عن "الأفكار الضالة"، و –بالطبع- استغلال هذا التحذير الرباني للالتزام بالحجاب وفق تعريفهم له.

وللأسف، الطبيب لن يدس "بروشراً" في يدي ليختصر لي كل ما أحتاج معرفته عن هؤلاء، وكيفية التحضير لأعراض العيش بينهم، والآثار الجانبية لمكافحتهم.

أولاً، لا تتجسد القسوة والبشاعة فقط في استغلال المرض للضغط على المرء للتراجع عن آرائه ومعتقداته، وهو الذي ستتكالب عليه في ذلك الحين جميع عقد الذنب المزروعة في داخله، والشكوك التي ستطارده من كل شيء. بل تكاد تكون خسة ودناءة في بعض الحالات، إذ تسلب ذلك المريض إرادته عوامل مثل مسكنات الألم، والهلوسة، وفقدان الذاكرة، وما شابهها.

ولكن ماذا لو أردت التراجع حقاً عن آرائي ومعتقداتي، ولأي سبب من الأسباب، من بينها الخوف البشري الطبيعي من الفناء؟ فلم أعد إبّان مرضي أتبنى –مثلاً- فلسفة معارضة للإنجاب؟ أو لم أعد أؤمن بضرورة تحقيق المساواة التامة بين الجنسين؟

هل سيعد ذلك انتصاراً لخصومي الواهمين، كما أستشعر الفرحة الخبيثة في صدورهم اليوم إذ رأوا الحجاب على رأس الأستاذة دلع، فتخيلوا أنها تنصاع لأوامرهم لها بالانقطاع إلى العبادة، وملازمة بيت الله؟ هل سأُحرم من حقي في التغيّر كأي شخص ينبض بالحياة؟

وماذا أيضاً لو لم أجد أي بوادر في نفسي للتراجع عن وجهات نظري وقناعاتي مع اقتراب تهديد الموت، والذي أتفهّم بأنه طالما اعتصر مواقف الناس، وكسرها إلى شظايا غير قابلة للتمييز؟ فماذا لو –مثلاً- تشبثت بعلمانيتي على الرغم من المرض، وبقيت على إصراري على جواز المعازف والفنون؟
هل سيعتبر ذلك عناداً وغطرسة ينضحان بالفسق، حتى وإن كانا في نظري يعكسان ثقتي بالله، وإيماني بسلامة نيتي؟ هل سيتهمني البعض بأني آثرت "الخطيئة" –في رأيهم- فقط لأكسب معركتي المصغرّة ضدهم؟

ولا داعي لأن تذكروني بأن هؤلاء قلة مختلة، وبأن الغالبية السوية من الناس ستدعو لي بالشفاء إذا وقعتُ في براثن المرض، وستقدّم لي الدعم.
فقط اسمحوا لي بسؤال أخير:

ألم ينبثق كل هذا الانحطاط من قناعة بريئة وحسنة النية بأن واجبنا الأسمى تجاه المريض هو وعظه ونصحه وإرشاده؟
والله من وراء القصد.