من متحف ياسر عرفات (أرشيف)
من متحف ياسر عرفات (أرشيف)
الثلاثاء 5 فبراير 2019 / 19:22

حرفة اغتيال التاريخ

يطرح عرض صور ومقتنيات هؤلاء المغتالين في متحف ياسر عرفات خلال هذه المرحلة سؤالاً حول "تشييئ" تجاربهم وتحويلها إلى كائنات "متحفية" مع الانتقال من زمن الثورة إلى عهد السلطة المتأرجحة ـ المبنية على تضحياتهم وتضحيات غيرهم ـ التي لا تتسق مآلاتها المفترضة مع الرواية التي آمنوا بها وأبدعوا في روايتها

يعيد متحف ياسر عرفات في رام الله فكرة معرضه "اغتيال" الذي يستمر ستة أشهر مقبلة، إلى نجاح مثقفين وأكاديميين في عرض الرواية الفلسطينية خلال العقود الماضية، مما تسبب في اغتيالهم.

قد تكون الفكرة عادية لمن لا يعرف طبيعة العلاقة بين المثقفين المغتالين والقائد الرمز الذي يحمل المتحف اسمه ويعمل على إدامة تكريسه ويستمد مبررات وجوده من بقايا حضوره المعنوي بين الفلسطينيين، لكنه يخرج عن عاديته بمعرفة الخمسة عشر مثقفاً الذين انتقاهم المشرفون على المعرض لعرض صورهم.

بين الأيقونات المحتفى بها الروائي غسان كنفاني الذي وصف حركة فتح في بداياتها بأنها مجموعة تحركها الـ "سي أي إيه" والفنان ناجي العلي الذي عاش حياته ناقداً للقيادة الفلسطينية، وما زالت شبهات موته تلاحق القائد الرمز، وماجد أبو شرار الذي اقتسم مع رفيقه نمر صالح جرأة النقد الحاد والمباشر لممارسات ياسر عرفات في اجتماعات الأطر القيادية.

لا يقل عن هؤلاء أهمية حنا ميخائيل الذي يعد واحداً من محركات التيار الديمقراطي الفتحاوي المناوئ لنهج عرفات، واختفى في ظروف غامضة، أو حنا مقبل رفيق ناجي علوش الذي فر هارباً من بيروت بعد أن ضاقت به ديمقراطية "غابة البنادق" والشاعر علي فودة الذي اعتقل عندما وطأت أقدامه تلك الغابة، وعاش رصيفياً متصعلكاً وغيرهم من الذين آمنو بفكرة وماتوا من أجلها.

يطرح عرض صور ومقتنيات هؤلاء المغتالين في متحف ياسر عرفات خلال هذه المرحلة سؤالاً حول "تشييئ" تجاربهم وتحويلها إلى كائنات متحفية مع الانتقال من زمن الثورة إلى عهد السلطة المتأرجحة ـ المبنية على تضحياتهم وتضحيات غيرهم ـ التي لا تتسق مآلاتها المفترضة مع الرواية التي آمنوا بها، وأبدعوا في روايتها.

وتفتح محاولة الإجابة على مثل هذا السؤال الذي يفرخ أسئلة هامشاً واسعاً من الفرضيات والمقاربات، مثل حنين القائمين على المعرض إلى زمن النقاء الذي يمثله المحتفى بهم، أو الرغبة في إعادة تدوير التاريخ.

بين هذه الفرضية وتلك تطفو فرضيات أخرى لا تقل أهمية، بينها تنظيف اسم صاحب المتحف من خصومته للمحتفى بهم واعادة ترميمه بالاتكاء على رمزيتهم، توطئة لاعادة تأثيث الذاكرة بأوهام واساطير بديلة.

المروحة الواسعة من الفرضيات تصطدم بشواهد تصعب إدارة الظهر لها، لا سيما وأن خيارات النهج السياسي الذي تمثل السلطة الفلسطينية امتداده بعيدة عن فهم تلك الرموز للرواية وطريقتهم في تمثلها والتبشير بها.

تغيب أبجديات التكريم ويحضر الاستخدام السياسي الضيق الذي يندرج في إطار نفض الغبار ومحاولة إعادة تلميع ما صار يصعب تلميعه، وربما استسهال ممارسة مهنة اغتيال التاريخ حين يحتفي متحف رئيس السلطة السابق برموز فكرية وثقافية وفنية مناوئة لسياساته، ونهجه دون الاعتراف بأن التربة التي زُرع فيها ذلك النهج كانت عقيمة، وأن مساره وصل إلى طريق مسدود.