حلقة نقاشية في نادي "كلمة" للقراءة (أرشيف)
حلقة نقاشية في نادي "كلمة" للقراءة (أرشيف)
الخميس 7 فبراير 2019 / 19:46

حكايات غجر إسبانيا الشعبيّة

يقوم سرد الجماعات المهمشة لذواتها على عمليات "اختلاق" و"تلفيق" و"تحبيك" سرديّ للتحايل على أصولها وجذورها الحقيقية باختلاق "تواريخ سردية" بديلة يتمّ تقمصها والانتساب إليها

أسّس مشروع "كلمة" الإماراتيّ للترجمة مبادرة ثقافية رائدة هي "نادي كلمة للقراءة"، حيث يستطيف هذا النادي نخبة ثقافية مختصة، بين وقت وآخر، لمناقشة بعض إصدارات المجموعة. ولقد كنتُ سعيدة جداً باستضافتي منذ حوالي أسبوعين مع مجموعة استثنائية لمناقشة أحدث إصدارات المشروع، وهو كتاب "حكايات غجر إسبانيا الشعبيّة"، تحرير وتقديم خابير آسينسيو غارثيا، ترجمة عبد الهادي سعدون. وقد ضمّت مجموعة القراءة الأساتذة كلاً من سعيد حمدان الطنيجي، وصالح كرامة، ولولوة المنصوري، وإيمان اليوسف، ومحسن سليمان.

تؤسِّس الجماعات مروياتها السردية الكبرى المغايرة لسرد الجماعات البشرية الأخرى لها، وهي تجد جذورها في السرد، وعندما تفقد السرد فإنَّها تفقد جذورها فتعيش حالة من "الشتات الرمزيّ" و"لعنة الترحّل". ويقوم سرد الجماعات المهمشة لذواتها على عمليات "اختلاق" و"تلفيق" و"تحبيك" سرديّ للتحايل على أصولها وجذورها الحقيقية باختلاق "تواريخ سردية" بديلة يتمّ تقمصها والانتساب إليها. ومما يعزّز هذه السرديات "الجليلة" الرمزية الكبرى لهذه الجماعات المهمشة الحكايات والملاحم البطوليّة والأساطير التي تمنح هذه الجماعات قوة رمزية عليا "تتعالى" بواسطتها على مرجعياتها الحقيقية "الدنيا" والهامشية".

في كتاب "حكايات غجر إسبانيا الشعبيّة" ثمّة نسقان ثقافيان ظاهران ومخبوءان في الوقت نفسه، نسق الثبات الذي يرسخ أنساق المركزية السردية الأوروبيّة،  وخاصة الإسبانية في السرد الملحمي البطولي، مثل حكايات "برناردو ديل كاربيو، وابن برناردو المنحوس، وفرسان فرنسا الاثني عشر، والعملاق، وأنريكه المنشِّد، وحصان توتانا النحيف، وتحدي الجمجمة". وفي هذا النسق ثمّة رغبة في التماهي مع الآخر الإسباني "القروسطي" وخاصة في عدائه للآخر (العربي = المورو). وهنا تأتي بعض الحكايات المشحونة بدلالات رمزية عميقة مثل "في جبين العربيّ يكمن الكنز" وحكاية "ماذا يفعل الملك مع زوجته العربية؟" التي تكون فيها الملكة العربية شخصية شريرة للغاية تود التخلص من زوجة ابنها نتيجة الغيرة الشديدة. ويأتي في نهاية الحكاية: "تقول الأميرة المسحورة لزوجها الأمير: "إذا كنتَ تسأل عما جرى لي، سوف أخبرك به. أمك الملكة العربيّة سحرتني بهذا الدبوس الذي في يدك، وكل ذلك بسبب الغيرة والكراهية. وعندما علم الملك ما فعلته زوجته الملكة العربية أمر أن تُعدم. أمّا الأمير فقد عاد إلى أميرته، وعاشا سعيدين، وأكلا لحم الحجل".

وفي هذه الحكايات ثمّة النسق الثقافيّ الآخر الذي يؤرِّخ سردياً ذاكرة "الشتات الغجري" حيثُ اللعنة التي حلّت على الغجر وستلاحقهم في سلالاتهم المختلفة والممتدة، وفي شتاتهم حول العالم. ففي حكاية "لطخات القمر" يخلف الغجريّ الجد الأكبر الوعد الذي تعهّد به للقمر في عدم قطع أشجار الغابات. يقول السارد الغجريّ: "إذا ما حدَّقت جيدًا في القمر سترى وجهاً غجرياً وآخر لطفل صغير هو ابنه (...) ابتلعه القمر مع ابنه الصغير الذي كان يرافقه. ومنذ ذلك الحين وهما محبوسان في القمر، وإذا ما أمعنت النظر إلى القمر في الليل، سترى كليهما. لهذا السبب لن يعلو شأن الغجر، فجدنا هذا أُتيحت له الفرصة ولم يعرف كيف يستغلها. لذلك فإنَّنا نحن أبناء ذلك الغجريّ مازلنا نجر خلفنا عِقاب القمر".

 وفي حكاية "ستأكلون ولكن لن تعملوا" ساعد الغجر السيد المسيح عندما صعد درب الآلام وعلى كتفه الصليب".  تقول الحكاية: "عندما صعد المسيح درب الآلام وعلى كتفه الصليب. راح يطلب الماء ولم يمن عليه أحد بشربة، وعلى هضبة كانت تقف مجموعة من الغجر، ولما سمعوا المسيح يتألم راحوا وبسرعة بحثًا عن الماء وقدموه له، ارتاح يسوع وتوقف لشرب الماء، وللتعبير عن امتنانه للمسة الإنسانية التي تعاملوا بها معه، قال لهم: أنتم أيها الغجر، لتحل عليكم بركاتي. ستأكلون ولكنكم لن تعملوا، وذريتكم ستأكل ولن تعمل أبداً".
ويذكر محرّر الكتاب خابير آسينسيو غارثيا، أنَّ سباستيان دي كوباروبياس في كتابه "كنز اللغة القشتالية أو الإسبانية" الصادر سنة 1611م، يؤكد أن العوام صدقوا لعنة الشات التي حلّت بالغجر إذ يقول: "كلمة غجري (Gitano) من "egiptano" أي من مصر (...) والعوام يعتقدون أن هؤلاء جاءوا من مصر، الأرض التي كانت العذراء لجأت إليها برفقة ابنها الرائع، بأمر من الروح القدس، حسب ما كشف عنه القديس يوسف (...) لأنهم لم يرغبوا في استضافة الابن المطارد، ولا أمه ولا القديس يوسف، فحلّت عليهم اللعنة، وعلى ذريتهم أن يتجولوا في أنحاء العالم، دون أن يحظوا بسكن ولا مضجع ثابت".

أبارك لمشروع "كلمة" الإماراتي للترجمة ترجمة هذا الإصدار الاستثنائي، والتفاته الدائم إلى حقول الثقافات والآداب الشعبيّة (غير النخبوية). ولا شكَّ أن هذه المتخيلات الشعبية العالمية للجماعات الإنسانيّة على اختلافها تتوفر على قدر كبير وعميق للمتخيل الإنساني، يختزل نظرة الإنسان ورؤيته للكون من حوله في تلك السرديات الرمزية الكبرى.