السبت 9 فبراير 2019 / 19:08

التأسيس للإخوة الإنسانية في أبوظبي

حدث استثنائي كبير وعظيم وقع في أبوظبي يوم الإثنين الماضي، عندما وقع البابا فرانسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية والإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد محمد الطيب، على وثيقة "الأخوّة الإنسانية" ضمن فعاليات لقاء الأخوّة الإنسانية الذي يرعاه "صرح زايد المؤسس".

"وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك" نص تأسيسي حقيقي لإنسانية أرهقتها سياسات التعصب والتفرقة والتوجهات الإيديولوجية البغيضة، فهي اليوم تطمح إلى الخروج من رحم المعاناة، لأنها اكتفت وملّت من المعاناة، فتاقت إلى الحرية التي وهبها الله لكل البشر وفطرهم عليها وميزهم بها، تاقت إلى العدل والرحمة والمحبة والسلام، التي هي غاية كل نفس. هذا هو ما تحتاجه الإنسانية اليوم، ولن يتحقق هذا إلا إذا تبنينا ثقافة الحوار والتعاون المشترك والمحبة المتبادلة، كطريق للجميع.

تخاطب الوثيقة قادة العالم وصنّاع السياسات الدولية والاقتصاد العالمي، بالعمل على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام والتدخل الفوري لإيقاف سيل الدماء البريئة في كل مكان، ووقف ما يشهده العالم من حروب وصراعات وانحدار مخيف في مستوى الثقافة والأخلاق. كما تخاطب الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين والإعلاميين والفنانين والمبدعين في كل مكان، لكي يعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال، كطوق نجاة لكل البشرية. وتدعو الوثيقة، لاستبعاد الفلسفات القائمة على غياب الضمير والدوران في فلك الفكر المادي والنزعات الفردية، على طريقة الفيلسوف توماس هوبز الذي كان ينادي بأن "الإنسان ذئب أخيه الإنسان". لقد حان الوقت لكي يعود الإنسان لكي يكون عضيداً لأخيه الإنسان، يمسح دموعه ويرعاه بكل ما أوتي من قوة.

الوثيقة لا تتخذ موقفاً عدائياً من منجزات الحضارة اليوم، بل تقدر كل الجوانب الإيجابية التي جعلت حياة الناس أسهل، وتحتفل بكل ما تم تحقيقه في مجال العلم والتقنية والزراعة والطب والترفيه، لكنها تسجل أن القفزات الحضارية الكبيرة، قد واكبها تراجع في القيم الأخلاقية والقيم الروحية والشعور بالمسئولية مما أسهم في شعور عام بالإحباط واليأس العزلة، ودفع كثيرين إلى الانجراف في دوامة الانحراف، يميناً أو يساراً.

وتشير الوثيقة إلى دور الأديان في بناء هيكل السلام العالمي، فالأديان لم تكن السبب في الإرهاب، وإنما فقهاء الشر والقراءات الفاسدة والتفسيرات المنحرفة لنصوص الأديان، هذه التفسيرات المتطرفة التي أشارت إليها الوثيقة يقف وراءها أناس يعشقون المشي فوق الجماجم ولا يحبون السلام ولا يعرفون قيمة للحياة ولا للنفس البشرية، لذلك يحاولون تفسير الدين ليكون شعلة نار ووقود ثورة تحرق الأخضر واليابس، فتنهار الدول وتتشرد العائلة ويُسفك الدم الغالي.

هذه الدعوة للأخوة الإنسانية تذكر بتلك الدعوة المشابهة التي أطلقها أعظم الفلاسفة الغربيين على الإطلاق، إيمانويل كنْت، عندما ألف كتابه الفذ "مشروع للسلام الدائم" حين تحدث عن دستور تلتزم به الأمم كلها، من أجل درء الحروب والسير نحو إلغاء الحرب من الوجود، فكان قيام "عصبة الأمم المتحدة" التي أصبح اسمها "الأمم المتحدة" كنتيجة لتلك الدعوة النبيلة لذلك الفيلسوف العظيم، ومشروع الأخوة الإنسانية الذي دعت إليه أبو ظبي سيكون له أثر عظيم، ليس في عالمنا العربي فقط، بل في العالم أجمع.

لم يكن غريباً أن تكون دولة الإمارات العربية المتحدة هي الراعية لهذا اللقاء، فهذا هو منهاج حكيم العرب الشيخ زايد في نشر قيم الخير والتعايش والسلام، وكنتيجة لرؤيته المتسامحة النبيلة تحقق على أرض الواقع ما نراه في الإمارات عندما نشاهد الناس من كل دين وعرق يعيشون الحياة الكريمة الكاملة على أرض الإمارات في أجواء رائعة من الأخوة الإنسانية القائمة على المحبة والتعاون والاحترام والأمان التام.

لقد كان عرّاب هذا الإنجاز المجيد هو الشيخ محمد بن زايد، الذي استطاع بجهد استثنائي أن يجعل هذا اللقاء يتحقق، وهو من بذل كل الجهود وذلل كل الصعاب، كقائد تاريخي عظيم، ليتم التأسيس للأخوة الإنسانية على أرض أبو ظبي. فعل هذا لإيمانه العميق أن قيم التسامح والتعايش هي من سيهزم التطرف والتزمت والإرهاب.

القضية ليست قضية ترف أو استعراض كما يتصور الجاهل من الناس وضعيف العقل، بل هي قضية حياة أو موت، إن لم تتحول الإنسانية من الحرب إلى السلام، فإن النتائج لن تكون محمودة. هذا ما أدركه الشيخ محمد بن زايد، ومعه دولة الإمارات كلها، ولذلك قررت الدولة أن عام 2019 سيكون "عام التسامح" عام الأخوة الإنسانية التي ستكون وردة تتفتح شيئاً فشيئاً، كلما ازداد وعي الناس بحاجتهم إلى التسامح. هذا الوعي الإنساني هو ما نراهن عليه، فقد طال ليل الغياب، وحان وقت اليقظة. يقظة الضمير هذه تبدأ من كل واحد فينا، ثم تسري في المجتمع كعدوى إيجابية.

في الأيام الماضية، ارتفع صوت النظام القطري، من خلال إعلامه الصبياني، يقول : كيف ستتسامحون مع الكاثوليك وأنتم لم تتسامحوا مع جيرانكم؟ وجوابنا هو نعم، ستتسامح معكم الإمارات وستتسامح معكم السعودية وكل العرب الذين دمرتم ديارهم من المحيط إلى الخليج سيتسامحون معكم، فقط عندما تتغيرون، لقد صبرنا عليكم عشرين عاماً، وهذه المرة لا بد أن تقدموا كل البراهين التي تثبت أنكم قد تغيرتم، لا بد من التأكد الكامل أنكم ستتخلون عن كل الأسباب التي أوجبت مقاطعتكم: عندما تلقون السلاح الذي تقتلون به إخوانكم، عندما تتحولون عن دعم الحركات الإرهابية، عندما تتوقفون عن دعم ثورات الخراب، عندما تنزعون أيديكم من أيدي القوى الإقليمية الطامعة في البلاد العربية، عندما تلتزمون بواجب حسن الجيرة، عندها ستزول الأزمة وسيحل التسامح. قبلها لن يكون أي شيء على الإطلاق، فالتسامح أحياناً يحتاج إلى أن نقاتل من أجله.