الرسام  الراحل أمين الباشا في أحد معارضه (أرشيف)
الرسام الراحل أمين الباشا في أحد معارضه (أرشيف)
الخميس 14 فبراير 2019 / 20:41

بائع الفرح

أمين الباشا الفنان اللبناني فارق عالمنا بعد أن ملأه أشكالاً وصوراً وألواناً. في وسعنا القول إن أمين الباشا ترك لنا لوحة هي له قبل أن تكون لأحد، فالمصور الذي كانه لم يتوقف عن التصوير، بل يمكن القول إنه لم يتوقف عن اللعب وعن اللهو بالأشكال.

كان أمين الباشا فناناً سعيداً، بل جعل للسعادة فناً. لم يكن يطيق القسوة والعنف والقبح والتشويه. لم ينضم الى قائمة الفنانين الحزانى والقساة، رغم أنه هو الذي فقد ابنته لم يخل من الحزن،

يمكننا القول في أمين الباشا إنه الفنان الذي بقي يضحك ويتسلى في اللوحة ويضيف إليها فرحه بالعالم، وقدرته على زخرفته، بل وقدرته على أن يفعل في اللوحة فعل العازف بالآلة الموسيقية. إنه يشكل في رسوماته ولوحاته موسيقى بصرية. ليس هذا مستغرباً من شخص خرج من بيت موسيقي وبقيت الموسيقى في تطلعه وفي أدائه.

كان أمين يرسم أو يصور ليخرج على القماشة أو على اللوحة ما يشبه في الألوان والأشكال عملاً موسيقياً. لم يكن التجانس هو عنوان هذه الموسيقى، لم يكن التوازي والانتظام هما عنوان هذه الموسيقى. كانت الحركة والبعثرة والتفاوت والاختلاف هي لحن أمين الباشا. كانت موسيقى كالبلوز والجاز تتضامن لكنها تعود فتتفاوت وتفترق وتختلف.

 مع ذلك تبقى في مجرى اللحن تلمه وتفرطه، يثور الفنان فجأة ويهدأ فجأة ويعود الى سياقه بعد أن يتبعثر وينفرط. كأن ثمة بستان، ليس أي بستان، بستان ليس من نبات وعشب ولكنه من تداعيات لونية وشكلية، من أحجام وكتل ومفردات ومن عديد زخرفات وزيَن. فهذا الرسام الكبير بالتأكيد، كان يحفظ حتى اللحظة الأخيرة في خزانته شتاتاً من الأشياء والأنواع. كان يجمع الى طفولة دائمة ما يشبه أن يكون "فناً ساذجاً"، لكنه أيضاً كان يجمع إليها الوحشية "فوفيسم".

إن فنه، وأكثر من ذلك، كان السرد مجرى فنه، فهذه الرسومات وتلك اللوحات تشبه الأعياد. إنها احتفالات وأعراس بقدر ما هي حكايا وقصص، وفي كل ذلك هناك أيضاً متعة الحياة والسفر من مكان الى مكان. لوحات أمين باشا هي هذه الأسفار والقصص، هي أيضاً تعييد العالم وإضاءته وتكليله بالسعادة والأنس، فلم يُعرف أن أمين الباشا رسم وحشية وعنفاً دمويين، ولم يُعرف عنه أنه رسم جثثاً وتشويهات، رغم أن الحرب كانت مشتعلة والدم يهطل في كل مكان، والقُبح مسيطر.القُبح نعم القُبح.

كان أمين الباشا لا يقارب القُبح. الأعياد والزينة والفرح أمور لا تناسب القُبح والموسيقى المسترسلة لا تناسب القُبح. مهما يكن من أمر فإن الرسام الذي وقع ـ كما يقول ــ صدفةً على دوفي واكتشف ما بينهما من قرابة. الفنان الذي ما كان في وسعه أن ينكر استمداده من ماتيس، والذي كان الفن الحديث كله في عمله، حتى بيكاسو لم يكن بعيداً عنه، وبالطبع ليست الغرنيكا هي التي جثمت على لوحته هناك رسمات بيكاسو.

لم يكن أمين الباشا سوى وريث عصره، وفي هذا الإرث حاول أمين الباشا أن يكون نفسه. أن يكون دو في كما يحب هو أن يكون دو في، وأن يكون بالطريقة نفسها ماتيس وبيكاسو. أن يجعل بيكاسو قريباً من ماتيس ودو في، أن يجعل الثلاثة قريبين منه، أن يدخلهم كلهم في أعياده وسحر لوحاته، في تزيينه وزخرفته وأعراسه وأعياده وحكاياه وقصصه.

كان أمين الباشا فناناً سعيداً، بل جعل للسعادة فناً. لم يكن يطيق القسوة والعنف والقبح والتشويه. لم ينضم الى قائمة الفنانين الحزانى والقساة، رغم أنه هو الذي فقد ابنته لم يخل من الحزن، لكن أمين الباشا لم يظن أن في وسع الفن، مهماكان الفنان أن يكون قبيحاً وأن يكون عنيفاً ودموياً. لقد أخلص هكذا لفن يروي القصص كما لو كانت زيناً وزخارف وأعياداً. كان الفن بالنسبة له هو اللهو والسرد والأعراس. ربما لذلك تفرح بأمين الباشا ما أن تتأمل لوحته حتى تسمع الموسيقى من داخلها حتى يدور في خواطرك اللعب، وحتى تستشف من اللوحة الفرح والتغريد والجمال.

هكذا رحل أمين الباشا صانع الأعياد، وبائع الفرح.