مقاتلون من قوات سوريا الديمقراطية في محيط قرية باغوز.(أرشيف)
مقاتلون من قوات سوريا الديمقراطية في محيط قرية باغوز.(أرشيف)
الأحد 17 فبراير 2019 / 19:16

هيدرا ومخاطر النسيان

القضاء على الوحش في الأسطورة الإغريقية تحقق بضربة أخيرة، حاسمة ونهائية، ولكن القضاء عليه في الواقع الحي يظل أكثر تعقيداً

هيدرا، في الأساطير الإغريقية، وحش خرافي متعدد الرؤوس، يشبه التنين، يعيش في مستنقع، ينفث السم، وحتى رائحة أنفاسه تقتل الناس، ولا يمكن القضاء عليه فكلما قُطعتْ له رأس نبت مكانها اثنتان، ولكن هرقل، كما تقول الأسطورة، تمكّن من القضاء عليه بمساعدة ابن شقيقه، فكان يقطع الرأس بالسيف، ويكوي موضع القطع بالنار.

واليوم، يُقطع آخر رأس، فوق الأرض، لوحش يشبه الهيدرا، ويُكوى موضع القطع بالحديد والنار، على الضفة الشرقية لنهر الفرات، قرب الحدود العراقية ـ السورية، في قرية سورية صغيرة اسمها باغوز، وفي مساحة جغرافية لا تزيد عن مئات قليلة من الأمتار المربّعة، يتمركز فيها آخر ما تبقى من "خلافة الدواعش"، التي سيطرت قبل سنوات قليلة على مناطق في سوريا والعراق تعادل مساحة بريطانيا.

واليوم، أيضاً، في لحظة ذات دلالات سياسية، وأبعاد تاريخية وثقافية بعيدة المدى، ثمة ما يستدعي التذكير بأشياء، وإضاءة زوايا مُعتمة، ينبغي ألا تغيب عن الذهن، وتتمثّل في أن الصعود المفاجئ للوحش الداعشي، بعد الاستيلاء على مدينة الموصل العراقية في العام 2014، كشف حقيقة الكثير من القاطنين في المنطقة الرمادية، بالمعنى الأيديولوجي والسياسي، في العالم العربي.

فقد انخرط هؤلاء، عبر منصّات إعلامية وسياسية، بدرجات متفاوتة من الصراحة والوضوح، بدعوى المهنية والموضوعية، وأحياناً بدعوى مقاومة الغزو الخارجي، أو النظام الجائر، في طرح أسئلة، وتقديم إجابات، تبدو للوهلة الأولى حيادية تماماً، بشأن هوية وماهية الإرهاب، وكذلك هوية وماهية الاسم حين أطلقوا على الدواعش تسميات من نوع "الدولة الإسلامية"، و"دولة الخلافة"، بذريعة أن داعش كلمة مُنفّرة وسلبية، وأن الصحافة الأجنبية تستخدم التعبيرين سالفي الذكر.

وقد كرّس أحدهم كتاباً بالإنكليزية، وأعاد نشره بالعربية، مع فروقات واضحة بين النصين الإنكليزي والعربي، للإيحاء بأن "الدولة الإسلامية" التي أعلنها الدواعش حقيقة قائمة في الواقع، استوفت الشروط المطلوبة، وتجد ما يبرر وجودها في الأعراف والقوانين الدولية الخاصة بنشوء الدول، ولا تحتاج لاعتراف من الأمم المتحدة للتدليل على أمر كهذا.

لذا، في استدعاء هذا الأمر، اليوم، محاولة للتذكير بحقيقة أن البقاء في المنطقة الرمادية، وكلما تعلّق الأمر بالإرهاب، بدعوى المهنية والموضوعية، أو مقاومة غزو خارجي ونظام جائر، ينطوي على قدر كبير من عمى البصر والبصيرة بالمعنى السياسي، إذا افترضنا حسن النوايا، وعلى قدر كبير من الخداع، والوضاعة الأخلاقية، وخدمة أغراض سياسية وأيديولوجية تصب الماء في طاحونة الدواعش على اختلاف راياتهم وأسمائهم، إذا افترضنا سوء النيّة، وهذا هو الأرجح.

وبما أن تلاحق الأحداث، والفيض الهائل من الأخبار والصور، الذي يتدفق من أربعة أركان الأرض، على مدار الساعة، يُسهم في تقصير حبل الذاكرة، فمن المُتوقّع أن السنوات الدامية، ما بين سقوط الموصل، قبل أربع سنوات وثمانية أشهر، وسقوط آخر معقل للدواعش في باغوز، خلال ساعات أو أيام، لن تبقى في صدارة الاهتمام فترة طويلة من الوقت.

ولعل في هذا ما يبرر التحذير من غواية "النسيان" وضرورة مقاومته بكل طريقة ممكنة. فعلى مدار تلك السنوات الوحشية والدامية تفككت دول، وانهارت مجتمعات، وأُجهضت قضايا، وأزهقت مئات الآلاف من الأرواح، وتحوّل ملايين الناس خاصة في سوريا والعراق إلى لاجئين في بلادهم وخارجها، ناهيك عن إحياء واستعادة منطق القرون الوسطى كقانون للصراعات الأهلية والحروب. وفي هذا كله كان الوحش الداعشي أبرز الفاعلين، دون إعفاء آخرين من المسؤولية بطبيعة الحال.
  
وبهذا المعنى تتجلى دلالة مقاومة النسيان، فالقضاء على الوحش في الأسطورة الإغريقية تحقق بضربة أخيرة، حاسمة ونهائية، ولكن القضاء عليه في الواقع الحي يظل أكثر تعقيداً. فقد أودى بحياة 15 جندياً في سيناء المصرية يوم أمس، السبت، ومن المنطقي توقّع لدغات غادرة هنا أو هناك من وقت إلى آخر في المدى القريب والمتوسّط.

وبهذا المعنى، أيضاً، لا ينبغي غض النظر عن، أو تجاهل، المنطقة الرمادية، بدعوى المهنية والموضوعية. ففي الحرب على الدواعش، على اختلاف تسمياتهم وراياتهم، لا يجوز النسيان، ولا تصح الإقامة في منطقة رمادية، مهما تعددت المرافعات، واختلفت الذرائع والأقنعة.