السبت 23 فبراير 2019 / 19:52

نحن والتسامح

بعد عصر التنوير بدأت الكلمة تتشكل لتعني عدة معان، فصارت تعني أن يترك لكل إنسان حرية التعبير عن آرائه وإن كانت تختلف عن آرائنا

أعلن رئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، أن عام 2019 سيكون عام التسامح، وذلك بغرض تعزيز هذه القيمة ودعوة الناس لتصحيح أفكارهم المتعلقة بهذا السياق، ومثل هذه الدعوة لا تُستغرب من دولة يعيش فيها مائتا جنسية من مختلف الأعراق، يعيشون الحياة الكريمة، في ظل قوانين الدولة التي تجرّم العنصرية والاحتراب الطائفي وتنفّر من أسباب الفرقة والاختلاف. هذا الإعلان جدير بأن يحفزنا إلى الحديث عن التسامح وقضاياه الجوهرية التي نشعر أن أبناء مجتمعاتنا بحاجة إلى إعادة النظر فيها واختبار صلابة أفكارهم حولها.

زعم بعض الباحثين أن العرب لم يعرفوا التسامح قط، واستدل على ذلك بأن الكلمة Tolerance التي تَحدد معناها بشكل كبير لدى الغربيين، لا تحمل نفس القيمة عند العرب، فعندما ننظر في المعاجم العربية إلى أصل (س م ح) لا نجد أنها تحمل مفهوماً واضحاً للتسامح بالمعنى الذي يعرفه الناس في زمننا المعاصر. عندما ننظر في المعجم الضخم "لسان العرب" لابن منظور الأنصاري، الذي وصفه الزركلي بأنه "جمع فيه أمهات كتب اللغة، فكاد يغني عنها جميعاً" فسنجد أنه كتب عن هذه المادة: "سمح، التسامح، المسامحة، والتسميح وتعني لغة الجهود، وأسمح إذا جاء، وأعطى بكراً وسحاء، وأسمح وتسامح وافقني على المطلوب، والمسامحة هي المساهلة".

وفي معجم "مختار الصحاح" لمحمد بن أبي بكر الرازي : "سمح أي جاد، وسمح له أعطاه، وسمح من باب ظرف صار سمحاً بسكون الميم، وقوم سُمحاء بوزن فقهاء، وامرأة سمحة بسكون الميم ونسوة سماح بالكسر، والمسامحة المساهلة، وتسامحوا تساهلوا".

وفي كتاب التعريفات للجرجاني، عرف التسامح بأنه: "هو ألا يعلم الغرض من الكلام، ويحتاج في فهمه إلى تقدير لفظ آخر، أو هو استخدام اللفظ في غير الحقيقة، بلا قصد علاقة معنوية، ولا نصب قرينة دالة عليه اعتماداً على ظهور المعنى في المقام". هذا الذي ذهب إليه الجرجاني هو التسامح اللغوي، وهو غير ما نقصد للحديث عنه.

من ينكر وجود التسامح عند العرب، لا ينكر أبداً أن اللفظة تحمل دلالات إيجابية ومعان سامية في اللغة العربية، فهي تدل على الكرم وتحث على ترك التشدد في مطالبة المرء بحقه واستيفاءه كاملاً، لكن الجذر اللغوي لتلك الكلمة في كل قواميس اللغة العربية، لا يحمل أية دلالة على المعنى الحديث للكلمة، ولا يتجاوز أبداً معنى الكرم والتساهل في البيع والشراء والتساهل اللغوي في استخدام ألفاظ بدلاً من أخرى.

من هنا نشأ ذلك الاتهام، لكن عند التدقيق سيتضح أنه اتهام ينطوي على مغالطة وقصور عن تصوّر مهمة الترجمة. الترجمة لا تعني أبداً أن هناك لفظ في اللغة (أ) يساويه تماماً لفظ واحد في اللغة (ب)، تجربتي في عالم التجربة تقول إن على المترجم أن يقصر طموحه على أن يجد في كل مرة مفردة قريبة المعنى من معنى المفردة التي يراد ترجمتها، هذه المفردة تتغير باستمرار بحسب السياق. الأمثلة على هذا كثيرة جداً لكن الاستشهاد سيقودنا إلى التشعب والبعد عن فكرة المقالة، ولذلك سنقفز إلى النتيجة ونقول إن معنى Tolerance ليس التسامح فقط، بل هو التسامح والعفو وحسن الجوار وحسن التعامل والكرم في العواطف، قبل كل كرم. وربما أن هذا قد لا يكون كافياً جامعاً مانعاً، ولذلك سنضيف كل المفردات التي تحيط بالتسامح وتحدد خصوصيته وتعطي معنى التعايش السلمي بين بني البشر بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم وألوانهم وإثنياتهم.

في الثقافة الغربية حدث نفس الشيء، فكلمة "التسامح"، كما يُفيد "المعجم الفلسفي" للعلاّمة جميل صليبا، كانت تعني عند علماء اللاهوت، الصفح عن مخالفة المرء لتعاليم الدين، لكن الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري آروويه الشهير بفولتيير جاء في القرن الثامن عشر، هو وفلاسفة عصر التنوير، ليعطوه معنى جديداً، بحيث صار يعني ما يتصف به الإنسان من ظرف وأنس وأدب، تمكنه من معايشة الناس رغم اختلاف آرائهم عن آرائه.

بعد عصر التنوير بدأت الكلمة تتشكل لتعني عدة معان، فصارت تعني أن يترك لكل إنسان حرية التعبير عن آرائه وإن كانت تختلف عن آرائنا، وزاد "غوبلو" الأمر توضيحاً بقوله إن التسامح لا يوجب على المرء التخلي عن معتقداته أو الامتناع عن إظهارها، ولكنه يوجب عليه الامتناع عن نشر آرائه بالقوة والقسر والخداع. وأضاف د. جميل صليبا معنى آخر، إلا وهو أن تحترم آراء غيرك، لاعتقادك بأنها محاولة للتعبير عن جانب من جوانب الحقيقة، بمعنى أن الحقيقة أغنى من أن تنحل إلى عنصر واحد، وأن الوصول إلى معرفة عناصرها المختلفة، يوجب الاعتراف لكل إنسان بحقه في إبداء رأيه، حتى يؤدي اطلاعنا على مختلف الآراء، إلى معرفة الحقيقة الكلية. هذا التسامح ليس فضلاً نجود به على الناس، وإنما هو واجب أخلاقي ينشأ عندما نحترم الإنسان، بما هو إنسان.