الممثل بيتر سيلرز في فيلم "دكتور سترينجلوف" 1964 (أرشيف)
الممثل بيتر سيلرز في فيلم "دكتور سترينجلوف" 1964 (أرشيف)
الأربعاء 27 فبراير 2019 / 19:58

كوميديا سوداء

المسودة الأولى من الكتابة لا تُنجز دفعةً واحدةً دون عصاب الرجوع إليها، والبداية من نقطة أعلى. من الممكن إعادة نصف المسودة الأولى عشرون مرة، والنصف الثاني من المسودة الأولى، مرتان فقط، ولهذا لا يمكن حساب عدد مرات الإعادة للمسودة الأولى في شكلها النهائي

فكَّر بلوم بطل جيمس جويس في رواية "عوليس"، أثناء جنازة ديجنام، أنهم سيصنعون في المستقبل قبوراً رأسية، لتوفير المساحة. عيون مظلمة. الأشكال السداسية، كبيوت النحل، أوفر رياضياً في المساحة، من الدوائر. عيون سداسية رأسية مظلمة. قال الفيزيائي ستيفن هوكينغ قبل رحيله: اهربوا من الأرض لكوكب آخر. 7.5 مليارات إنسان. موارد محدودة. المريخ. ما كانش يتعز. غلاف جوي رقيق. إشعاع. لا أوكسجين. لا ماء. قالتْ ناسا: الماء كان يوجد في المريخ قبل 3 مليار سنة. يا فرحتي. درجة الحراة 80 تحت الصفر.

بذلة رائد الفضاء، هي سفينة فضاء مصغرة، وزنها 150 كيلو غراماً. على المريخ يكون وزنها 50 كيلو غراماً. رحلة بلا عودة كما تخطط ناسا. حقارة أخلاقية. طيب حاجة شبه الأرض. تاهت ولقيناها. كوكب "بروكسيما بي"، أقرب حاجة خارج المجموعة الشمسية. المسافة حوالي 4 سنوات ضوئية، وبحساب الزمن الأرضي 2000 سنة طول الرحلة. يا بلاش. "دكتور سترينغلوف"، بطل ستانلي كوبريك، هوه إللي ها يختار العينات الفالتة بجلدها من الأرض. السياسي الإنساني محمد البرادعي: مش معقولة، دكتور سترينجلوف فاشي جداً.

في فيلم "العثور على فوريستر" 2000، للمخرج للأمريكي جوس فان سانت، مشهد تقليدي، يجلس فيه الممثل شون كونري في دور الكاتب المخضرم ويليام فوريستر، صاحب الرواية الواحدة، أمام الآلة الكاتبة، بينما يجلس أمامه الممثل روب براون في دور المراهق الذي يريد تعلم حرفة الأدب، جمال والاس، أمام آلة كاتبة أخرى.

يضرب ويليام فوريستر على الآلة الكاتبة، ويقول للكاتب المراهق: لا تفكر اكتب فقط، التفكير في مرحلة لاحقة. التقليدي في المشهد يُشبه أن يقول لك أحد بأن الحكمة تأتي من الصمت، فتقول له: لكنني أشك فيما لدي للصمت عنه. المسودة الأولى من الكتابة لا تُنجز دفعةً واحدةً دون عصاب الرجوع إليها، والبداية من نقطة أعلى. من الممكن إعادة نصف المسودة الأولى عشرون مرة، والنصف الثاني من المسودة الأولى، مرتان فقط، ولهذا لا يمكن حساب عدد مرات الإعادة للمسودة الأولى في شكلها النهائي.

يحدث أحياناً أثناء عمل فنجان قهوة، فوران مُفاجئ لوجه القهوة، بسبب ابتعادي عن المُراقَبَة أكثر من دقيقتين، وفي الغالب لا أكون بعيداً عن المطبخ، أكون أمام المكتبة أنظر إلى كعب كتاب، أو أنظر إلى تتر فيلم في بدايته، وفي الغالب أيضاً، أقوم بصب فنجان القهوة بعد زوال وجهه، وآخذ منه شفطة، وأنا أشعر بيأس مفاده أن لا فائدة من عمل شيء على الإطلاق، وكأنّ خللاً أصيلاً هو الذي صعد بوجه القهوة، وكأنّ وجهاً آخر أكثر قتامة من وجه القهوة، يظهر، وباستسلام يأتي القرار برمي فنجان القهوة، وعمل فنجان آخر.

أعود للقراءة ببطء. عشرون صفحة من رواية في جلسة واحدة. كنتُ في زمن اللياقة أقرأ ثمانين صفحة، أو مئة صفحة في جلسة واحدة. دائماً تأتي كلمة اللياقة في التشبيه، الكلمة المُسْتَعَارَة من الرياضة البدنية. كنتُ رياضياً منذ عشرين سنة. أفكر في قطع طول حوض السباحة مرتين كرول، ومرة ظهر، ونصف مرة فراشة، التي تساوي في صعوبتها بمثابة قراءة عشر صفحات من هيدغر. من الممكن أن تنتكس العودة للقراءة، وتبقى مُعلقةً، عشرة أيام، بالمجد الزائف للعشرين صفحة الأولى، وبعد الأيام العشرة، لا أستطيع تحت وطأة الذنب، سوى إعادة قراءة العشرين صفحة الأولى مرة ثانية، ولإنقاذ ماء الوجه، وفي نفس الجلسة، أتقدم عشر صفحات أخرى.

كتب جان لوك جودار في كراسات السينما 1958، عن فيلم ستانلي كوبريك القصير (The Killing( 1956، أو "القتل"، أنه فيلم من عمل تلميذ جيد، مُعجب بالمخرج جون هيوستن، بعيداً عن أن يكون مثل هيوستن، المتمكن من مادته. لا يبقى علينا إلا أن ننتظر بصبر، فيلمه الطويل القادم. وفي باقي المقال، كلمات فاترة، ومُتعالية من نفس النوع.

كان جودار المولود 1930، في الثامنة والعشرين أثناء كتابة هذا المقال، وكان ستانلي كوبريك المولود 1928، في الثلاثين من عمره. لم أحب سينما جودار أثناء الدراسة، وما أحببته له لم يكن مؤثراً، وإن كنت شاهدته على فترات بحكم الموضة والمهنة. ولو وُضِعتْ أفلام جودار كلها، وهي كثيرة، في كفة، وفي الكفة الأخرى فقط، فيلم "دكتور سترينجلوف" 1964، لستانلي كوبريك، لوزنتْ كفة كوبريك. إذا سُئل جودار الآن، وهو في التاسعة والثمانين من عمره، عن قيمة كوبريك بالنسبة له، ماذا سيقول؟

جاك دريدا: رأيتُ منذ بضع سنوات صورة لمارتن بشورت قصير. نعم مارتن هيدغر، فهل يتعين علينا التوجس خيفة من الفكر أو من الفلسفة؟ وهل سيتمتع هؤلاء الأساتذة والرهبان بتخويفنا، أو بجعلنا نستمتع بخوفنا، وننفجر ضحكاً أمام الشورت القصير لشخص تخلى عن ثوب الرهبانية، شخص خرج هو أيضاً مثل هيجل من مؤسسة ثيولوجية لاهوتية، يُصعب نسيانها. لكن لم يكن مارتن هو مَنْ عرض علينا الصورة بنفسه، بل إن أخاه هو مَنْ قام بذلك، هذا الأخ الوحيد كما يشهد على ذلك. إهداء لمارتن هيدغر، فقد مكر به أخوه بتلك الطريقة الساذجة والحنونة جداً، فضلاً عن أنه فخور بكتابة مؤلف صغير حول ذكريات عائلة هيدجر، لكنه يغار من مارتن بشكل كبير ربما، مارتن صاحب الشورت القصير. وعندما يكون الشخص بشورت كهذا في سن لم يتعلم فيها الفلسفة ولا الفكر، فلن يكون هناك اختلاف بينه وبين أخيه الوحيد. ودفاعاً عن حجب صورة هيدغر بالشورت القصير، أضع أمامكم هنا اعتراض كافكا على فكرة ناشره برسم صورة لجريجور سامسا، بطل رواية المسخ على غلاف الكتاب في طبعته الأولى.

حين كتب بودريار في كتابه "أمريكا"، السرعة تخلق موضوعات خالصة، وهي ذاتها موضوع خالص، حيث أنها تطمس الأرض والنقاط، وترتقي مسار الزمن كي تلغيه، وتمضي أسرع من سببها ذاته، ترتقي مساره كي تُبطله، كأنه كان يقصد جاك كرواك على الطريق.

مع أن الفُرَص اللانهائية التي أعطيتها لمزاج الكتابة، لم تكن يوماً مناسبة مع النتائج النهائية للكتابة نفسها، إلا أن زمن فُرْصة السيجارة وفنجان القهوة هذه المرة، كان بطعم الاستقالة من اللانهائيات والنهائيات معاً، على الرغم من أنه زمن لا يتعدَّى العشر دقائق.

أرز أبيض، وتحويشة تائهة من الكِبَد والقوانص في عمق الفريزر، وشرائح خيار منقوع منذ يومين في ماء وخل وكرفس، وفص ثوم، وفيلم تسجيلي عن ضِبَاع وأسود ماساي مارا.

قرأتُ في قصة قديمة، أن الراوي زار البطل في بيته، فوجد صديقه لا يملك القهوة والسجائر. سأل نفسه بحزن، كيف سيصمد؟ لا أذكر مؤلف القصة، ولا اسمها، ولا نهايتها، أذكر فقط معنى الصمود. وفي مُحَاوَلاتي الكثيرة غير المنتهية للتوقف عن النيكوتين والكافيين، كانت مشكلتي هي تفريغ البيت من احتياطي السجائر والقهوة. نعم أريد التوقف، لكنني أيضاً أريد الصمود.