تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الخميس 7 مارس 2019 / 20:03

الطعام.. أنثروبولوجيا وثقافة مؤسِّسة!

طبخ أيّ شعب من الشعوب يرتبط بفهمه للعالم، ومطابخ الشعوب تختزل ثقافاتها بعمق، فالطعام هوية وثقافة

في "أنثروبولوجيا الطعام والجسد، النوع والمعنى والقوة" تبحث العالمة الإنثروبولوجيّة كارول م. كونيهان التمثيلات الرمزية العميقة للطعام بوصفه ثقافة مؤسِّسة يتداخل فيها النوع (رجل/امرأة) والمعنى وعلاقات القوة في التراتبيات الاجتماعيّة. ويتمُّ الحفاظ على التراتب الهرميّ الطبقيّ والطائفيّ والعنصريّ والنوعيّ بين الرجال والنساء من خلال تمايز الناس عن بعضهم البعض في التحكم في الطعام والحصول عليه، كما أنَّ نوع الطعام الذي يأكله الشخص وكميته ومع من يكشف عن موقع هذا الشخص في النسق الاجتماعيّ.

ولطالما عبّر الناس عن تمايزهم وتفردهم من خلال وسيط "الطعام"؛ فعلى سبيل المثال يعيد الطعام إنتاج التراتب الهرميّ ويحافظ على استمراره. لقد كان السكر في البداية، كما تذكر كارول م. كونيهان طعامًا للأغنياء فقط، استخدموه لابتكار منحوتات رائعة لافتة للأنظار تعلن عن قوتهم وثروتهم من خلال تعاملهم مع سلعة ثمينة ومرغوبة. ومع استعمار مناطق متزايدة الاتساع من العالم، وتزايد استعباد أعداد هائلة من الأفارقة لإنتاج السكر، تمكَّنت أعداد متزايدة من الفقراء من تناوله: وقد فعلوا هذا جزئيًا لتقليد أغنيائهم ومشاركتهم في سمة الاختلاف الاستثنائيّ، في الحين الذي غادر فيه الأغنياء منحوتات السكر اللافتة إلى أيقونات جديدة لايشاركهم فيها الفقراء!

ثمّة تنميطات وقولبات جاهزة لشعوب العالم من خلال الطعام: فالإنجليز يسمون الفرنسيين "ضفادع" بسبب عادة أكل أرجل الضفادع لدى الفرنسيين التي يراها الإنجليز عادة بربرية برية! لقد وظّف الانثربولوجيّ الفرنسيّ كلود ليفي شتراوس مصطلحي النيء/ المطهوّ لفحص بنية العقل البشريّ؛ ووفقًا لما يقوله ليفي شتراوس توجد ثنائيات متعارضة مغروسة في عقولنا مثل النيء/ المطهوّ والطبيعة والثقافة والإنسان والحيوان، وهي تظهر على عدة مستويات في تفكيرنا. فالتعارض في علاقة البشر بالطبيعة قد يُنقل عن طريق الطعام بوصفه وسيطًا. وهو يكشف عن العموميات في التفكير البشريّ في جميع أنحاء العالم. لقد كان ليفي شتراوس يشير إلى هذا الارتباط الثقافي بين الطعام والمعنى في عباراته التي تقول إنَّ الناس يختارون أجناسًا معينة من الحيوانات طواطم ليس لأنَّها صالحة للأكل بل لأنَّها صالحة للتفكير.

والطعام يحتوي المعاني وينقلها لأنَّها جزء من أنساق مركبة تتغلغل عميقًا في الثقافة. والطعام يؤدي وظيفته بوصفه نسقًا من أنساق التواصل البشريّ؛ فالناس في العالم كلّه ينظمون طرق تعاملهم مع الطعام في نسق يخضع لنظام موازٍ للأنساق الثقافيّة الأخرى، ويبثُّ فيها المعنى. ولذلك فإنَّ مطبخ أيّ شعب من الشعوب يرتبط بفهم هذا الشعب للعالم، ومطابخ الشعوب تختزل ثقافاتها بعمق؛ فالطعام هو هوية وثقافة.

تشير كارول م. كونيهان إلى أنَّه في بعض الثقافات يأكل الأحياء الموتى فعليًا لتكريمهم والحصول على بعض ما لهم من قوة، وقد ذهب فرويد إلى أنَّ أكل المتوفين يقوم على أساس الاعتقاد بأننا بامتصاص أجزاء من جسد الشخص من خلال فعل الأكل نمتلك أيضًا خصائص هذا الشخص. وهنود اليانوماما الذين يعيشون في منطقة الأمازون بفنزويلا يأكلون رماد أجساد أحبابهم المتوفين لضمان نجاح المتوفي في الحياة الآخرة. وحين أُصيب عالم الاثنوغرافيا كينيث جود بالملاريا وتدهورت حالته حتى اقترب من الموت عبَّر السكان المحليون عن حبهم له بطمأنينة بقولهم "لا تقلق يا أخانا الكبير، لاتقلق مطلقًا، سنشرب رماد جثمانك"!

وللطعام تمثيلات رمزية وثقافية رائعة جدًا؛ فالرواية الرائعة التي كتبتها لورا إسكويفيل في عام 1989 بعنوان " كالماء بالنسبة للشيكولاتة"Like Water for Chocolate رواية شديدة الروعة تدور حول أسرار الحب والحياة كما يكشف عنها المطبخ. وقد استخدمت إسكويفيل الطعام طوال الرواية وسيلة لنقل العواطف العميقة من حب إلى رعاية إلى غضب. وتنتظم الرواية في اثني عشر فصلاً تمثل أشهر السنة، ولكلِّ فصل طبخة تُعد مفتاحًا له! لقد أرادت إسكويفيل أن تبرز أنَّ قوة الطعام تكمن في ارتباطه ارتباطًا وثيقًا بذواتنا المادية والحسية وبأقوى أحاسيسنا، الإحساس بالجوع، والرغبة، والنهم، واللذة والشبع! كتاب "أنثربولوجيا الطعام والجسد: النوع والمعنى والقوة" من ترجمة سهام عبدالسلام عن المشروع القوميّ للترجمة.