خالد جمال سند السويدي أثناء رحلته من أبوظبي إلى مكة المكرمة (أرشيف)
خالد جمال سند السويدي أثناء رحلته من أبوظبي إلى مكة المكرمة (أرشيف)
السبت 9 مارس 2019 / 20:12

معركة للجسد... تجربة ناجحة في هزيمة البدانة

هزيمة البدانة تتطلب وضع أهداف أبعد بكثير من استرداد الجسد ممشوقاً، فأجسادنا في النهاية يجب أن تظل خادمة لغايات أخرى مرتبطة بامتلاء الروح، وسمو الأخلاق، وفعل ما يمكث في الأرض وينفع الناس

ليس من الحصافة أن نستهين بمعركة يجب أن نخوضها من أجل أجسادنا في زمن تلعب فيه الرأسمالية المتوحشة على "اقتصاد الرغبة"، فتمعن في إطلاق إعلانات تطارد كلاً منا كظله، كي تجعلنا لا نكف عن التهام كل هذه الأصناف المتنوعة من المأكولات والمشروبات، وهي مسألة كانت لافتة لعلماء الإنسانيات فتناولوها ضمن سياق "علم اجتماع الجسد" بطريقة مفصلة، أما أطباء التغذية والتجميل وبعض الجراحين ومدربو اللياقة، فكان لهم اليد الطولي في الاستفادة المادية مما جرى.

وفي مسألة العناية بالجسد لا يكون الذكر كالأنثى، فكل يهتم بجسده وفق طبيعته الحياتية ووظيفته الاجتماعية وإدراكه لدوره، لكن هناك أموراً مشتركة بين الجنسين، من بينها "البدانة"، لأنها مسألة لا تتعلق بالشكل الظاهري للجسد، والذي يصبو كل منا إلى أن يجعله ممشوقاً، إنما ترتبط بالصحة العامة التي يجب أن يحرص كل ذي عقل سليم عليها، لأن اعتلال الصحة يؤثر سلباً على قدرة الإنسان على أداء دوره الاجتماعي، وعلى إمكانية استمتاعه بمباهج الحياة، ولذا لم تبالغ الحكمة حين وصفت الصحة بأنها تاج على رؤوس الأصحاء.

وطالما سمعنا ممن نعرفهم ومعنا وحولنا عن أولئك الذين تمكنوا بفضل إرادتهم القوية من هزيمة البدانة، في معركة طالت بهم شهوراً وربما سنوات. بعضهم هزمها بحمية غذائية صارمة ومكلفة، وبعضهم مارس الرياضة بانتظام شديد، سواء المشي يومياً، أو الجري لبضع كيلومترات، أو الدخول في غمار تدريبات شاقة في صالات "الجيم" التي صارت موجودة في كل مكان، لتشهد على أن خدمة الجسد قد صارت أمراً موضع اهتمام عميق من قطاع واسع من البشر.

وتقتحم عيني، كغيري، إعلانات حول أدوية وأسماء أطباء وعناوين صالات رياضية ترمي جميعهاً إلى مقاومة البدانة، لكنني لم أقرأ من قبل كتاباً كاملاً حول تجربة خاضها شخص لتقليل وزنه الزائد جداً إلى حد يرضيه، حتى وقع في يدي كتاب "السر؟! ليس هناك سر" للدكتور خالد جمال السويدي المدير التنفيذي لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، والذي يستفيض في شرح معركته ضد البدانة.

عند هذا الحد فإن الأمر عادي، فكم من شاب في منتصف الثلاثينيات قد قرر أن يمارس الرياضة مصحوبة بحمية غذائية في سبيل التغلب على وزنه الزائد، ونجح في هذا نجاحاً مبهراً، لكن هل قرر أي من هؤلاء أن يعزز نجاحه في الظفر بجسد ممشوق بتجربة رياضية فارقة ولافتة؟ الإجابة هي: نعم، قلة قد فعلت ذلك. لينشأ سؤال جديد: هل من بين هذه القلة من جرى لمسافة تربو على ألفي كيلومترا؟ الإجابة: لا، لم يفعلها أحد كان بديناً من قبل.

لهذا أردت أن أقرأ عن هذه التجربة بعد "الألترامارثون" الذي قطعه خالد السويدي من أبوظبي إلى مكة، والذي جاء بعد آخر أقل، تمكن فيه من أن يجري من رأس الخيمة إلى أبوظبي، وهي مسافة تصل 327 كيلومتراً قطعها في ثلاثة أيام وثماني ساعات فقط. فهنا تجربة مختلفة، لا تقول إن صاحبها قد توسل بالرياضة في سبيل إنقاص وزنه فحسب، وإلا كان من الممكن أن يقتصر على بعض الأنشطة البسيطة، التي يمارسها كثيرون لنصف ساعة أو ساعة على الأكثر يوميا في سبيل الإبقاء على أجسادهم مشدودة، إنما أخذه المسار إلى ما هو أبعد، فقرر أن ينقل المعركة ضد البدانة، وممارسة الرياضة، إلى حيز أوسع مربوط بمعان اجتماعية وثقافية وسياسية ودينية.

الكتاب طبعا لم يفرط في هذا الجانب، تاركا إياه لكل من يدلي بدلوه في تقييم هذه التجربة، إنما أسهب في الحديث عن أمرين أساسيين: تربية البدن، وتربية الإرادة، وجاء هذا بلغة عذبة مشوقة، وسرد عرم، يمتزج فيه ما هو ذاتي بما هو علمي ومعرفي، وتنبت التجربة الشخصية من سياق أوسع، يقول لنا بوضوح إن تحول البدين إلى ممشوق أو حتى نحيف، يجب أن يصاحبه تحول في السلوك والتصرف، بحيث تكون تربية النفس مواكبة لتربية البدن، بل هي الغاية القصوى من هذا، لتأتي بعدها تربية الروح، فالجسد في نهاية المطاف يجب أن يكون خادماً للروح، إن أردنا لإنسانيتنا أن تكتمل.

بعد أن تحمل هذا الشاب ما يورثه الانضباط في الغذاء من كآبة لأصحابه أحياناً، فإنه تحمل موجات من التشكيك في قدراته، حين أعلن عن "ألترامارثون الفجيرة - أبوظبي"، لكنه أنجز ما يريد، فلما عاد إلى الحديث عن رحلة أطول من أبوظبي إلى مكة عاد المشككون والمتشككون، ووجد من يقول له: "خالد .. أنت تفكر بشكل غير واقعي. لا تدرك طبيعة المجتمع من حولك. الخسارة نتيجة حتمية لمثل هذا المشروع"، الأمر الذي علمه أن "جزءاً غير قليل من المجتمع يميل إلى التخوف إزاء الأفكار الجريئة، والتخويف منها"، وهو قطعاً محق في ذلك، فأغلب الناس يخشون التجديد والتغيير والتطوير، ويصبحون، بمرور الوقت، عبيداً لما وجدوا عليه آباءهم وتآلفوا معه، واستقروا عليه. لكن الكاتب كان من قلة لا تستسلم للمألوف والجاري والساري كأنه قانون حتمي لا فكاك منه، ولذا كان عليه أن يخوض معركة في سبيل أن يجد لنفسه مكاناً بين المغامرين، عبر رحلتين تبلغان معها نحو 2500 كيلومتراً.

وقبل هاتين الرحلتين الشاقتين يشرح الكاتب نظامه الغذائي بالتفصيل، من أين استقاه، وكيف حافظ عليه، وما هي الأهداف التي حددها من أجل هذا، وكيف تمكن من أن يحقق معادلة صعبة هي إرضاء النفس وإسعادها بتناول المأكولات والمشروبات اللذيذة والمحببة وفي الوقت ذاته يتناول كل ما هو صحي، وكل ما لا يؤدي إلى إفساد التجربة التي عقد العزم على خوضها. ثم مسار انتقاله إلى معادلة جديدة يبينها لكل قارئ أو متابع لتجربته وهي: كيف تمارس الرياضة كهاو وفي الوقت نفسه تحقق بها شيئا مفيداً، وهو ما جرى بالفعل حين قصد بالرحلة الأولى أن تكون لصالح جمعية "رحمة" لمرضى السرطان، وأراد بالرحلة الثانية أن يلفت الانتباه إلى أهمية الدبلوماسية الشعبية في تعزيز العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

ويبدو أن خالد السويدي، الحاصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية، قد قصد من تسجيل تجربته في كتاب أن تكون ماثلة أمام الشباب العربي، وأغلبه باحث عن خدمة الجسد، دون هدف أو غاية من هذا سوى إظهار فتوة أيام الصبا، وهي مسألة يبينها قوله: "سعيت في حواراتي مع طلبة الجامعات في دولة الإمارات، وفي هذا الكتاب، إلى تأكيد أن النجاح في تحقيق أي إنجاز ليس وصفة سرية أو طلسماً مهجوراً ننقب عنه في باطن الأرض. ليس هناك سر كما يقول عنوان هذا الكتاب، بل معادلة بسيطة أساسها أن الإنجاز مقترن باستعدادك لبذل الجهد وقبول المعاناة، وأي محاولة للالتفاف على هذه الحقيقة ستكون نتيجتها سلبية، وكل من يقدمون وعدا بحلول سحرية وسريعة لأي مشكلة يبيعون الوهم، ويخاطبون في الناس حاجتهم إلى التهرب من الاستحقاقات اللازمة لتحقيق الأهداف".

بذا تؤكد هذه التجربة التي حواها كتاب "السر؟ ليس هنا سر" للشباب أن هزيمة البدانة تتطلب وضع أهداف أبعد بكثير من استرداد الجسد ممشوقاً، وحتى من الحفاظ عليه في صحة وعافية، فأجسادنا في النهاية يجب أن تظل خادمة لغايات أخرى مرتبطة بامتلاء الروح، وسمو الأخلاق، وفعل ما يمكث في الأرض وينفع الناس.