مشهد من فيلم كفرناحوم.(أرشيف)
مشهد من فيلم كفرناحوم.(أرشيف)
الجمعة 15 مارس 2019 / 18:18

كفر ناحوم

فسّر "صندوق الأمم المتحدة للسكان" نفسه رغبات هؤلاء اللاجئين في التكاثر بأنهم بكل بساطة يسعون إلى تعويض الخسائر البشرية التي مُني بها شعبهم

"شو بدك من أهلك؟، يسأل القاضي بحزم."ما بقى بدي إياهن يخلفوا"، يرد الطفل زين بعينين تغرورقان بالدموع، إذ يخوض محاكمته الجريئة ضد ذويه بتهمة إنجابه.

أشك بأنّ أحداً منا رأى هذا المشهد من الإعلان لفيلم "كفرناحوم" دون أن يعتصر قلبه ألماً على الآلاف ممن هم على غرار زين؛ تطحن عظامهم الغضة أزمات الفقر والجوع والإهمال دون أن توجّه نادين لبكي عدسة كاميراتها الجريئة إليهم، وتحضهم على مقاضاة الحياة.

ولكن حتى أشجع الرسائل وأصدقها قد تكون سيفاً ذا حدين، لا سيما في عالم بات يردد بغضب وحنق سرديته المفضلة التي تحتم على المعوزين وغير المستقرين الامتناع عن الإنجاب.

وفي عالمنا العربي، بات هذا الخطاب يوجّه سهامه بشكل محدد إلى اللاجئين، الذين نضع على كواهلهم وحدها ما يمر به فلذات أكبادهم في المخيمات. ولم يقصّر الإعلام اللبناني –مثلاً- في هذا الخطاب العدائي، لا سيما حين أصدرت قناة "الجديد" أغنية تسخر من كثرة إنجاب النازحين السوريين.

كمتبنية الـantinatalism- وهي فلسفة معارضة للإنجاب ترى أن تجنيب الإنسان آلام الوجود أولى من الإتيان به للسماح له بتجربة الخيرات-، لست بحاجة إلى أن أراجع الأسباب المنطقية التي تدفعنا إلى مطالبة قليلي الحظ من الرفاهية بعدم الإنجاب.

وأعلم أني رفعت صوتي بهذه التوسلات أكثر من مرة، مرفقة حديثي بانتقادات شديدة الحدة إلى هؤلاء الآباء والأمهات المتجردين من حسّ المسؤولية، والذين لا يفكرون أبعد من ملذاتهم الجنسية الآنية.

ولم يسقط غروري ليتحطّم على رأسي حينما اطّلعت على الأرقام والاحصائيات بشأن توفّر وسائل منع الحمل إلى الفئات المُعذبة من المجتمعات العربية، وهي التي يقف ضد أي خطة تضعها لتقليل الإنجاب ثالوث خطير من الفقر، والفتاوى الدينية المتشددة، بالإضافة إلى الجهل، بل وحتى الشعور بالخجل من اللجوء إلى هذه الموانع.

ولكن الصدمة التي قطعت سلاطة لساني، وأشعرتني بمدى التعالي والوقاحة في تنظيري الفارغ على هؤلاء، كانت تقريراً غربياً عن ارتفاع معدلات المواليد السوريين في مخيم الأزرق بالأردن.

حينها، تساقطت من حولي نظرياتي عن الأنانية، وضعف الشعور بالمسؤولية، والهوس بتحقيق الوجاهة الاجتماعية من خلال كثرة الإنجاب، إذ فسّر "صندوق الأمم المتحدة للسكان" نفسه رغبات هؤلاء اللاجئين في التكاثر بأنهم بكل بساطة يسعون إلى تعويض الخسائر البشرية التي مُني بها شعبهم. بل إن القائمة على إحدى العيادات المعنية باللاجئين نقلت منطقهم بصريح العبارة: "إنهم يقولون بأن الكثيرين من أفراد أسرهم قد قُتلوا، وهم يرغبون في استبدالهم".
تخيلوا؟ إنها لم تكن سوى الحاجة البشرية الملحة للبقاء في مواجهة الانقراض قصفاً وقنصاً وتعذيبا ًوجوعاً ومرضاً!

لن نختلف قط بأن أعداد المواليد يدق ناقوس الخطر بالنسبة إلى كوكبنا، ولكن ربما علينا التوقف عن الادعاء بأن أرحام الأمهات هي وحدها المشكلة إذ تغيض وتزداد.