تظاهرة في غزة.(أرشيف)
تظاهرة في غزة.(أرشيف)
الأحد 17 مارس 2019 / 20:02

مظاهرات غزة ورصيد حماس

حماس تحاول إجهاض الموجة الاحتجاجية بحرف الأنظار عن مشكلتها الداخلية المستعصية، وترحيلها إلى ساحة المجابهة مع إسرائيل

جابهت حماس، على مدار الأيام القليلة الماضية، موجة احتجاجات، هي الأكبر منذ استيلائها على قطاع غزة قبل 12 عاماً. ومن الواضح أن الطريقة التي حاولت بها فض المظاهرات أثارت مشاعر الصدمة والغضب لدى الفلسطينيين في غزة وخارجها. فقد اعتدت شرطتها، وميليشياتها المسلحة، على المتظاهرين بالضرب، ناهيك عن اعتقال صحافيين ونشطاء في منظمات المجتمع المدني، وشنت حملة تحريض بعبارات سوقية ضد المعارضين.

ومن اللافت للنظر أن صفحات التواصل الاجتماعي، على مدار الأيام نفسها، شهدت نقداً غير مسبوق، خاصة من جانب مواطنين في غزة، لسلطة حماس الإخوانية، بل وذهب البعض إلى حد القول إن العلاقة بين حماس، وأغلب الخاضعين بالإكراه لسلطتها، وصلت حد القطيعة، وإن الهبّة الشعبية لن تتوقف قبل الإطاحة بها.

وإذا كان من السابق لإوانه الجزم بشأن نتائج سريعة في القريب العاجل، إلا أن موجة الاحتجاج الراهنة تدل على تدهور العلاقة بين الجانبين. فحماس، التي اعتمدت في سنوات سبقت على تجارة التهريب عبر الإنفاق، على الحدود مع مصر، فقدت هذا المورد، ولجأت على سبيل التعويض إلى فرض ضرائب باهظة أثقلت كاهل المواطنين. كما أن السلطة الفلسطينية، التي تولت على مدار سنوات طويلة تسديد النفقات التشغيلية للخدمات في غزة، أصبحت أكثر تشدداً في الآونة الأخيرة، إضافة إلى القيود المفروضة على التحويلات المصرفية من غزة وإليها.

ونتيجة هذه الأشياء مجتمعة، معطوفة على سياسة الحصار التي يفرضها الإسرائيليون، أن حماس أصبحت تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، إلى حد أنها لم تعد قادرة على دفع مرتبات موظفيها. ومع ذلك، وعلى الرغم من تدهور جودة الحياة والخدمات في غزة، إلا أن قيادات حماس العليا، هناك، لا تعاني تدهوراً في جودة حياتها، ولا نقصاً في الخدمات. وهذا مصدر إضافي لتوتر العلاقة بين شرائح اجتماعية عريضة وسلطة حماس، التي فقدت الكثير من رأسمالها المعنوي.

وبما أن السياسة، لا الاقتصاد، هي الحقل الذي استثمرت فيه حماس، على مدار عقود، بدعوى المقاومة لمراكمة رأسمالها الرمزي، فإن هذا الحقل، بالذات، يمثل في الوقت الحاضر مصدر استنزاف لما تبقى من رصيدها المعنوي. فمظاهر الاحتجاج الأسبوعية، على الحد الفاصل بين غزة وإسرائيل، المستمرة منذ عام تقريباً، تبدو مع مرور الأيام في نظر الكثيرين نوعاً من الاستثمار في سوق الدم لتمكين حماس من الخروج من عنق الزجاجة، فقط، ولا صلة بها بالمصلحة الوطنية العليا للشعب.

والمفارقة، في هذا الشأن، أن الأموال التي تطوّعت قطر بدفعها، في صورة دفعات شهرية، وبالتنسيق مع إسرائيل، تبدو بالنسبة لحماس مصدر نعمة ونقمة في آن. فهي تساعدها في البقاء طافية فوق الماء من يوم إلى آخر على الأقل، ولكنها تسحب الكثير من رأسمالها المعنوي. فالجماعة الإخوانية، التي حاولت تمييز نفسها عن السلطة الفلسطينية بدعوى المقاومة، لا تتورع عن انتهاك ما اعتبرته في وقت مضى "مُحرمّات وطنية" للحفاظ على سلطتها في غزة.

وربما لن نجد تمثيلاً أكثر بلاغة من حادثة وقعت في ذروة موجة الاحتجاج الشعبية ضد حماس. فقبل يومين، أُطلقت صواريخ من غزة في اتجاه تل أبيب. وهذا بالحسابات السياسية والعسكرية يُعتبر تصعيداً خطيراً للوضع. وفي التعليق على هذا التصعيد لم يجد مُحللون في غزة وخارجها صعوبة في القول إن حماس أطلقت الصواريخ لإجهاض موجة الاحتجاج الشعبية ضدها. وفي الوقت نفسه أنكرت حماس مسؤوليتها، بينما أكد الإسرائيليون أنها هي التي أطلقت الصواريخ، ولكن هذا وقع عن طريق الخطأ.

وحقيقة ما وقع فعلاً أقل أهمية من دلالته السياسية. فالإسرائيليون، خاصة نتانياهو، يحتاجون قدراً محسوباً من التصعيد لجلب المزيد من الأصوات إلى معسكر اليمين عشيّة الانتخابات البرلمانية، وإن كانوا لا يريدون المجازفة بحملة عسكرية واسعة النطاق، ولا يتورعون عن شن ضربات موضعية.

أما حماس فتحاول إجهاض الموجة الاحتجاجية بحرف الأنظار عن مشكلتها الداخلية المستعصية، وترحيلها إلى ساحة المجابهة مع إسرائيل. لذا، لم يكن من قبيل المصادفة أن تتهم المحتجين والمتظاهرين ضدها بالخيانة والعمالة لإسرائيل. وهذا كله في سباق مع الوقت، ورهان عليه، على أمل التوصل إلى تفاهمات مع الإسرائيليين، بما فيها، وعلى رأسها، عقد صفقة لتبادل الأسرى، والحصول على ثمن يُسهم في تخفيف الحصار.

وإذا كان ثمة ما يستدعي الخروج بدلالة سياسية من لعبة كهذه، فالخلاصة أن في هذا كله ما لا يزيد من الرصيد المعنوي بقدر ما يسحب منه. ودليلنا على هذا موجة الاحتجاج الشعبية غير المسبوقة في غزة، وطريقة حماس في إجهاضها.