تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الثلاثاء 19 مارس 2019 / 19:22

ما هديتُكَ في عيد الأم؟

الأمهات قبل أن يسافرن في رحلتهنّ الأبدية نحو السماء يتأكدن أنهن تركن لأولادهن بدائلَ تملأ الفراغَ البارد الذي سوف يصنعه غيابُهن. هكذا فعلت أمي

الهدايا التي جلبناها لأمهاتنا في "عيد الأم"، أبدًا لا ننساها. لأن ذكرياتنا القديمة التي نسجتها طفولتُنا، محفورةٌ في خانة "الذاكرة العميقة" التي تعبرُ فوق الزمن، وتتحدّاه. عكس "الذاكرة السطحية"، المؤقته، التي تخزِّنُ أحداثًا عابرة: ماذا أكلنا، مَن قابلنا، الوجوه، الأسماء، الأرقام، وغيرها من العوابر.

مازلتُ أتذكر أول هدية لأمي وأنا في الصف الأول. أحضرت لنا المعلمةُ في الفصل بطاقاتٍ صغيرة ملوّنة ومُزيّنة بالزهور. وكتبتْ على السبورة: “إلى ماما الحبيبة، كل سنة وأنت طيبة.” وطلبت منّا أن ننقل المكتوبَ في بطاقاتنا، ثم نوقّعها بأسمائنا. ومع مرور السنوات توالت هداياي لأمي وتطوّرت: قارورة عطر، مناديل مطرَّزة بورود، بروش، قلم، وغيرها من الهدايا كنتُ أشتريها من دكان "عم يونان" أسفل عمارتنا. وكان الرد الدائم لأمي على هداياي وهدايا شقيقي: "مش عاوزة هدايا، انتوا هديتي، بس ذاكروا واطلعوا الأوائل وأنا أفرح". لهذا، غالبًا ما كنت "أستعبط" وأسترد تلك الهدايا، بمكر الصهاينة، بعد مرور عدة أيام، مبررةً تلك الخطيئة لنفسي بأن ماما “مش عاوزة هدايا”!

ثم دخلتُ في مرحلة جديدة من الهدايا التي لا تُحوجُني إلى ادّخار النقود. القصائد. ورقة بيضاء، أكتب فيها عدّة أبيات على بحر الكامل أو الوافر أو المتدارك، لأنها الأسهلُ عَروضيًّا، ثم أزيّن حوافَّ الورقة ببعض الزهور الملونة. وبعدما غدوتُ كاتبةً دخلتُ في مرحلة إهدائها كتبي في تصدير الصفحة الأولى، لو تصادف صدورُ كتاب لي مع عيد الأم.

ونحن أطفالٌ في مدارسنا، كان عيدُ الأمّ بالنسبة لنا يحملُ الشيءَ ونقيضَه. كثيرٌ من الإثارة والشغف، وكثيرٌ من القلق والمنافسة، وكثيرٌ من الحزن والشفقة والشعور بالذنب.

نشعرُ بالشغف والإثارة ونحن نختبيء في زوايا غرفنا، قبل عيد الأم بأيام، لنكسر الحصالات ونعدُّ القروشَ النحيلة التي "حوّشناها" شهورًا طوالاً من أجل ذلك اليوم المهم؛ حتى نشتري هدية تليقُ بالشخص الجميل الذي تتعلّق عيونُنا بعينيه. الأمُّ. نفرحُ حين تفرحُ تلك العينان، ونخافُ إن مسّهما غضبٌ. نهزُّ الحصالات لنزِنَ بأيدينا وزنَ العملات المعدنية الحبيسة بالداخل؛ علّنا نُخمّن كم جنيهًا ستصنعُ حين "نُجمّدها". ثم نذهب إلى المحال نختالُ بثروتنا الصغيرة ونشتري ما تجودُ به المحالُّ وما يليقُ بخيالنا الجموح الذي يريدُ أن يشتري العالمَ لـ ماما. ثم يضربنا القلقُ حين نسرح بأفكارنا ونُخمّن ماذا سيجلب الشقيقُ الأكبر (الأوفرُ مصروفًا)، والصديقةُ التي تسكن في الجوار، وأولاد الخالة. هل سيتفوقون علينا في هداياهم، أم ستفوقُ هديتُنا ما يجلبون؟ لونٌ من المنافسة "الحُلوة" تناسبُ طفولتنا.

 نذهب إلى المدرسة فخورين بما جلبنا لأمهاتنا، وننتظرُ أن توزّع علينا المعلمةُ الكارت بوستال ليُرافق هدايانا؟ تجولُ عيونُنا في الفصل من حولنا فنجد تلميذًا تدمعُ عيناه وهو يتسلّم بطاقة المعايدة الخاص به؛ ولا يدري ماذا يصنع بها، أو تلميذةً تُطرق برأسِها فوق الديسك لتُخفي عينيها عن عيوننا. هذا أو تلك لا يحبّان "عيد الأم" ولا يُحبّان تلك البطاقات؛ لأن المُرسَل إليه: "غير موجود”. الأمُّ قد غادرت العالم، فكيف نُرسل لها هذه البطاقة؟ هنا يبدأ الشعورُ بتأنيب الضمير لأن صديقة لنا أو صديقًا، ليس لها ما لنا من نعيم وفرح. الأم. هذا الفريق الحزين من الأطفال، يتعذّبون في عيد الأم، لأنه يُربِكُ حساباتهم ويفتح لهم سؤالاً وجوديًّا صعبًا: “أين أمّي؟ ولماذا لأقراني ما ليس لي؟" مثلما يفتح لنا نحن المُنعّمين بوجود الأم سؤالاً لا يقلُّ عُسرًا عن سؤالهم: “أين أمّهاتهم؟ و لماذا لنا ما ليس لأقراننا؟" سؤالهم مضفورٌ بالحزن والشعور بقلّة الحظ، وسؤالنا مضفورٌ بالأسى ومرارة الشعور بالذنب.

اليومَ، وقد غادرتني أمي قبل سنوات مرّت كالدهور، انضممتُ إلى ذلك الفريق الذي يحملُ له عيدُ الأم شيئًا من المرارة. أين أمّي التي غدا بوسعي الآن شراء نفيس الهدايا في عيدها؟ هي الآن في مكان كلُّه هدايا وشموسٌ ونجومٌ وألماساتٌ وأنهارٌ من اللؤلؤ النقيّ. هي الآن حيث تصدحُ الموسيقى وتُشقشقُ العصافيرُ بالنغم والشدو. هي الآن في حضرة الله الغنيّ السخيّ الذي يُحبُّ الأمهاتِ بقدر ما أحببنا، فوهبنا من فيض حُنوّهن وليالي سهرهن لكي ننام ونكبُر.

لكنّ الأمهات قبل أن يسافرن في رحلتهنّ الأبدية نحو السماء يتأكدن أنهن تركن لأولادهن بدائلَ تملأ الفراغَ البارد الذي سوف يصنعه غيابُهن. هكذا فعلت أمي. تركت لي أمًّا جميلة فتحت جناحيها لتضمَّني مع صغارها الأربعة، فأصبحتُ خامستَهم. فكأنما أمي قبل أن تسافرَ قد وهبتني أمًّا وأربعةً من الشقيقات والأشقاء. فأيُّ حظٍّ ملأ حياتي وأيُّ فرحٍ حلّ محل حزني على رحيل أمي! ولكن الفرحَ لا يدوم، كما تعلمون. سافرت أمي الجديدة إلى السماء بدورها في العام الماضي، بعدما تركت لها نهرًا من الحب، لا ينضب.

شكرًا لأمي الحقيقية "سهير" التي صنعت منّي إنسانًا جادًّا مسؤولاً يقدّس العمل، وطوباكِ حيثما تكونين في أي زاوية من زوايا فردوس الله الأعظم. وشكرًا لأمي الروحية "آنجيل" التي أكملت مسيرة أمي الراحلة، وانعمي بفردوس الله الأبدي، وطوباكِ على ما وهبتِني من حُنوّ وحبّ ورعاية وثقة في أن الله يمنحُ قبل أن يحرمَ، ويهِبُ قبل أن يأخذَ. فإن منحَ، فلا مُنتهى لما يمنح، وإن وهب، فلا أسخى من هداياه.

في عيد الأم، بعد يومين، أقول لكل أمٍّ: كل عام وأنتِ زهرةٌ من زهور هذا الكون.