ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي (أرشيف)
ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي (أرشيف)
الأربعاء 20 مارس 2019 / 20:17

انتقام العولمة

المشكلة أن عقاب العولمة لمَنْ يخرج عن جادتها، ما زال في بدايته، فالعولمة مُسلَّحة بأدوات يصْعُب الاستغناء عنها، والتكنولوجيا على سبيل المثال، تدعم من باب خلفي الإرهاب المعولم، فمن غير الوارد أخذ قرار ثوري قريب، ضد يوتيوب، أو فيس بوك، أو تويتر

فيما يُشبه مراجعة الذات، والاعتراف بالأخطاء، يقر ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، في لقاء مع محطة "يورونيوز"، بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فرصة للتعلُّم. جاء اللقاء مع ميشيل بارنييه بعد تصويت مجلس العموم البريطاني، الهيستيري المتتابع، طوال ثلاثة أيام من الأسبوع الماضي. تصويت مجلس العموم المُعقَّد، كان غايته تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس (آذار) 2019.

يسترسل ميشيل بارنييه بقوله، إن الاتحاد الأوروبي كان عليه فعل المزيد، لحماية مواطنيه من العولمة. من عقر دار الرأسمالية العالمية، تأتي كلمات النقد صريحة مباشرة. العولمة مُدانة في أرضها. حدِّث ولا حرج. لا سحر ولا شعوذة. يتابع بارنييه قوله. إن الإجابة على سؤال لماذا اختارتْ بريطانيا مُغادرة الاتحاد الأوروبي، تتعلق بأن المواطن الأوروبي شعر بالتخلي عنه، شعر بالإقصاء، شعر بأن أوروبا لا تحميه. صوَّت عدد كبير من الناخبين بالطريقة نفسها التي صوَّتت بها بريطانيا قبل ثلاث سنوات للخروج من الاتحاد الأوروبي، في بلجيكا وفرنسا وإيطاليا.

اعتراف بارنييه يُعد انقلاباً مُفاجئاً على أغلب التحليلات السياسية التي ترى أن صعود اليمين الشعبوي ليس له علاقة، في جانب منه على الأقل، بالبُعد الاقتصادي المعولم، وهو بُعد أقصى الطبقة المتوسطة بعنف عن وضعها المستقر، والطبقة المتوسطة هي رُمَّانة الميزان والاعتدال في أي بلدٍ كانت، فإذا تعرَّضتْ هذه الطبقة للاضمحلال والتجريف، وبحثتْ عن بديل انتقامي في التصويت، فلن تجد سوى اليمين المتطرف.

يعتقد ميشيل بارنييه أن أوروبا تصرَّفت بسذاجة في بداية العولمة، فقبل ثلاثين عاماً، ومع انتهاء العالَم المتوازن، ثنائي القطب، الذي كان على درجة عالية من التنظيم بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، أصبح كل شيء ممكناً في ظل القطب الواحد. كان الأمر مقبولاً في البداية، إلا أنه أصبح جحيماً مع الليبرالية المتطرفة. ما نفتقر إليه منذ الأزمة المالية 2008، هو العودة إلى مبادئ السوق الاجتماعي.

نستطيع تأويل كلمات بارنييه، بأن الهزيمة الساحقة للاتحاد السوفييتي من أمريكا والغرب، كانت أكثر من اللازم، فلم تكن هزيمة على غرار الحروب التقليدية، الحرب العالمية الأولى والثانية مثلاً، بل كانت هزيمة تركتْ وراءها دماراً ديموغرافياً لا سبيل لإصلاحه، فالحروب الأهلية الدينية التي أذكتْ أمريكا نارها في كتلة المعسكر الاشتراكي، لفح لهيبها بعد ثلاثين سنة، المعسكر الغربي الغني الديموقراطي.

وبالعودة إلى تعبير، أو مصطلح بارنييه عن "مبادئ السوق الاجتماعي"، نسأل ما هو السوق الاجتماعي؟ وأفضل إجابة أن نذكر نقيضه، فنقيضه هو السوق الواحد، الشمولي، الكوني، المعولم، العابر لحدود الدول، وهذا يعني أن ميشيل بارنييه يلتمس العذر لبريطانيا في ثورتها ضد العولمة، فربما تطمح هي أيضاً في تأسيس "مبادئ سوق اجتماعي بريطاني".

المشكلة أن عقاب العولمة لمَنْ يخرج عن جادتها، ما زال في بدايته، فالعولمة مُسلَّحة بأدوات يصْعُب الاستغناء عنها، والتكنولوجيا على سبيل المثال، تدعم من باب خلفي الإرهاب المعولم، فمن غير الوارد أخذ قرار ثوري قريب، ضد يوتيوب، أو فيس بوك، أو تويتر، وكلنا نعرف الخدمة الجليلة التي تقدمها وسائل التواصل الاجتماعي للإرهاب، فأي تصدي، حتى لو كان متواضعاً، لأدوات، أو وسائل العولمة العنيفة، سيصطدم بالحريات التي أصبحتْ فوضوية، وبلا سقف.

نعرف أن السقف الكابح للعولمة، هو القانون، وقد قطعتْ العولمة شوطاً بعيداً في إذلال القانون وإهانته، بحيث ستبدو أقل مُحَاوَلَة منه، لاستعادة صولجانه، دعوة للفاشية، ولكي يسترد القانون هيبته الرومانية، أو عنفوان شبابه، لن يعبأ بالاتهامات، لكن مع الأسف ستجري أنهار من الدماء، قبل أن تأتي حالة التوازن بين القانون والعولمة، والتوازن في تاريخ البشرية عمره قصير.

أحس ميشيل بارنييه فيما يبدو، بأنه أغضب العولمة كثيراً، فقال بنفي سريع: إن "مبادئ السوق الاجتماعي"، لا تعني حمائية التعريفات الجمركية، لكنني مع الحماية الجيدة. أتطلع إلى أجندة جيدة، أتطلع إلى أوروبا خضراء. ومع ذلك لن تفهم ديكتاتورية العولمة الحماية الجيدة إلا بكونها حمائية التعريفات الجمركية. أمّا عن أوروبا الخضراء، فكأنّ ميشيل بارنييه يغفل تماماً هزيمة الطاقة النظيفة على يد "السترات الصفراء" في فرنسا، اللهم إذا كانت أوروبا الخضراء أخرجتْ فرنسا من فردوس اللون الأخضر المستقبلي.

لا بد وأن السيدة تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، شعرتْ بالارتياح لحديث ميشيل بارنييه، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، لكن الارتياح قد يُسحب منها على الفور، أمام شرط الاتحاد الأوروبي، بأن تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى ما بعد الأول من مايو(أيار) 2019، أي التأجيل الطويل إلى 2021، أو 2022، مشروط بتنظيم بريطانيا ومشاركتها في انتخابات البرلمان الأوروبي ما بين 23 مايو (أيار) إلى 26 مايو 2019.

من الصعب تخيُّل إذلال وإجبار البريطانيين الذين صوَّتوا بنعم للخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء ديمقراطي، قبل ثلاث سنوات، أن يشاركوا، ويصوِّتوا في انتخابات البرلمان الأوروبي، بعد أن احتقر البرلمان البريطاني، الذي يمثلهم، ورقة الديمقراطية، ورمى بها في سلة المهملات، ومن الصعب أيضاً بعد كل هذا الارتباك وعدم اليقين، والضعف السياسي، إصرار بريطانيا على الاحتفاظ بوصفها التاريخي الغابر، بأنها بريطانيا العظمى، وكأنّ العَظَمَة لا تحتاج إلى إعادة إثبات، وتجديد في مجرى الزمن.