تعبيرية (أرشيف)
تعبيرية (أرشيف)
الجمعة 22 مارس 2019 / 19:19

Game over

كعادته، لم يتقاعس إعلامنا العربي عن ركوب الموجة لشيطنة ألعاب الفيديو، طارحاً منذ تلك مئات التقارير التي لا ترى أبعد من أنفها، ومتجاهلاً الدراسات التي عجزت عن الربط بين العنف وألعاب الفيديو

ولت تلك الأزمنة التي كنت حينها أعطّل ضميري لأقضي الساعات الطوال أمام "البلاي ستيشن" في سبيل التتويج ببطولة الدوري في لعبة "الفيفا"، أو هزيمة جميع المصارعين في "تيكين"، حتى يبدأ الجلد على إبهامي الصغير في الانسلاخ كجلد الحية.

إذا لم تعد في كفي "يد تحكم" لأحطمها غضباً من ردود الأفعال على حادثة نيوزيلندا الإرهابية، ولكني سأحاول على كل حال.

علينا أولاً أن نعترف بالذكاء الإعلامي الواضح للإرهابي الأبيض - الذي لن أذكر له اسما اقتداء بمبادرة جاسيندا آرديرن، رئيسة الوزراء النيوزيلندية-، وأن نقرّ بشطارته في سلب الأنظار، والحصول على دقائقه الـ15 من الشهرة، كما يقول التعبير الإنجليزي الشائع.

فإلى جانب جريمته النكراء، أقدم ذلك المختل على نشر بيان رسمي من 74 صفحة يكشف من خلاله عن الأصول التي استقى منها تطرفه وعنفه، مدركاً بأن المحللين وكتّاب الأعمدة و"متفلسفي" وسائل التواصل الاجتماعي لن يقاوموا هذه المغريات، لا سيما وأنه "دلدل" أمامهم بالكلمتين الأشهى على الإطلاق: ألعاب الفيديو.

وكعادته، لم يتقاعس إعلامنا العربي عن ركوب الموجة "الجاهزة" لشيطنة ألعاب الفيديو، طارحاً منذ تلك الجمعة الحزينة مئات التقارير والمقالات التي لا ترى أبعد من أرنبة أنفها، ومتجاهلاً جميع الدراسات التي عجزت عن إيجاد الحبل السري بين العنف وألعاب الفيديو.

ففي أهم الدراسات التي صدرت مؤخراً عن هذه القضية، واعُتبرت الأكثر شمولية وموضوعية حولها، فإنّ جل ما ذهب إليه البروفيسور آندرو بيرزيبلسكي من جامعة "أوكسفورد" هو أن ألعاب الفيديو تميل إلى التحريض على سلوكيات وصفها بالمعادية للمجتمع، كالشتم، والتحدث بسلبية وتعال بغرض الاستفزاز، والمضايقات. إلا أنه ظل نافياً تسبب ألعاب الفيديو في العنف.
ولكن "الكلام الفاضي" آتى أُكله، فلم تمر أيام حتى تقدّمت النائبة آمال رزق الله، العضو في مجلس النواب المصري، باقتراح لحظر الألعاب التي تدعو إلى القتل والإرهاب –على حد تعبيرها-، أما إحدى الإعلاميات الخليجيات، فتفاخرت بمشاهدتها لمقاطع الجريمة الدامية مع أبنائها، الذين أدركوا حينها بحكمة الطفل ووعيه بأنّ هذا سيكون مصيرهم إن لم يبرؤوا إلى الله من "ببجي".

ولشدة الراحة التي نحققها في الاستمرار في شيطنة ألعاب الفيديو، لم يتفطّن أحد منا إلى النبرة الساخرة –وإن لم تكن مضحكة على الإطلاق- في بيان القاتل.
فلعبة "التنين سبايرو" التي يزعم مستهزئاً بأنه قد تعلّم منها الفاشية يقل فيها مستوى العنف عن إحدى حلقات المسلسلات الخليجية الدرامية، أما ادعاءه بأن "فورتنايت" قد مرّنته على كيفية قتل أعدائه والرقص فوق جثثهم –بالمعنى الحرفي-، فليس سوى محاولة مقززة منه للاستظراف.

ربما لو خلعنا عن أعيننا عدسة توجسنا غير المبرر من ألعاب الفيديو، وكراهيتنا العمياء لها، لأدركنا ماذا كان القاتل يحاول أن يقوله، وبصريح العبارة: "أرجوكم، لا تضيّعوا وقتي الثمين بإلقاء اللوم على ألعاب الفيديو".