رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن (أرشيف)
رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن (أرشيف)
السبت 23 مارس 2019 / 21:11

الإنسانية vs الإرهاب

أعرضت أرديرن عن ذكر اسم الإرهابي، لأن هذا غرق في التفاصيل السلبية، فالغرق فيها سيزيدنا منها، من الذي قتل ولماذا قتل؟ كل هذا سيزيد من إذكاء روح العداوة بين أتباع الديانات الكبرى

منذ متى والإنسانية تعلن الحملة تلو الحملة "ضد الإرهاب"؟ ومع هذا لم تنجح في إزالته من الوجود، ولا زالت تعاني منه، فمعظم الحروب التي تشنها ضده تنحرف لتسير في طريق آخر، وتبدأ بعض الأمم في استغلاله ضد بعضها، بدلاً من محاولة محوه. لا نزال نرى مستوطناً إسرائيلياً يطلق النار العشوائية على أهلنا في فلسطين، أو قائد حافلة مسلم يسحق السواح الغافلين على شواطئ فرنسا، ماضياً فوق الجثث بناقلته الضخمة دون أن يعرف أحداً منهم، وآخر هذه الحوادث المؤسفة هي لرجل أسترالي قتل خمسين مسلماً وهم يؤدون الصلاة، وبالتأكيد هو لا يعرفهم معرفة شخصية ولم يكن بينه وبينهم عداوات عائلية. من أين تأتي هذه الأحقاد؟ من الذي وضعها في قلوب البشر؟ كيف يمكن أن نشفى منها؟ هناك، ولا شك، خلل وراثي في التفكير.

ذات مرة، طلب بعض الناشطين من الأم تيريزا أن تشارك في حملة "ضد الحرب" فاعتذرت وقالت إنها لن تشارك في حملة تحمل هذا العنوان، لكنها ستشارك في أية حملة "مع السلام". قد يظن أحدنا ألا فرق، فكونك ضد الحرب وضد الإرهاب يلزم منه أن تكون مع السلام. لكن هناك فرق، فالانشغال بالحرب، جعلنا نغرق في المزيد من الحرب، مثلما أن الانشغال بالحرب على المخدرات، قد أوجد المزيد من المخدرات، وكل شيء ننشغل به، سوف يكثر. كل ألم ٍنشكو منه ونتحدث عنه، سيزداد شراسة.

هل هناك من يفكر بمثل هذه الطريقة؟ نعم، اتضح هذا عندما رفضت رئيسة وزراء نيوزيلاندا السيدة جاسيندا أرديرن، النطق باسم الإرهابي الذي قتل المصلين، لأنه بحسب تحليلها، رجل أراد الشهرة، ولذلك ستحرمه من الشهرة، بالدعوة إلى نسيان اسمه، فيبقى مجرد مجرم نكرة. لقد أظهرت السيدة أرديرن كيف تكون القيادة في وقت الأزمات، فبدلاً من الكلمات المبتذلة التي لا تعزي أحداً، ارتدت وشاحاً أسوداً وقادت مجموعة من السياسيين لزيارة أسر الضحايا؛ وألقت كلمة مرتجلة في إحدى المدارس أمام أهالي الضحايا، وحثت التلاميذ على جعل نيوزيلندا مكاناً لا تسامح فيه مع العنصرية، ولا شك أن العداوات الدينية قد صارت نوعاً من العنصرية.

منذ أيام، كتبت هيئة التحرير في "النيويورك تايمز" مقالة بعنوان: "أميركا تستحق قائداً مثل جاسيندا أرديرن" استعرضت فيها الخطوات الحكيمة الراشدة التي تعاملت بها السيدة أرديرن مع الكارثة التي وقعت، وكيف أنها تحركت بحكمة، بعد حادثة الاعتداء المروع لتحصل على قرار بمنع بيع أسلحة القتل الجماعي. سهولة شراء السلاح، من أكبر المشكلات في نيوزيلاندا، وأيضاً في الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث يمكن أن يأتي رجل يظهر على وجهه الغضب، فيشتري رشاشاً وما شاء من الرصاص، من محل صغير في بضع دقائق، ولا يلزمه إلا تعبئة بعض الأوراق التي لن يجد الانتحاري أي حرج في تعبئتها، ثم يبدأ بعد ذلك في إفراغ غضبه من عشيقته التي تركته ورحلت مع آخر، بقتل المارة في الشوارع. هذا وجه من وجوه الجنون، تسلل ممسكاً بثوب الحرية، وأول خطوة نحو الشفاء، أن يدرك الإنسان إلى أي حدٍ وصل به الجنون.

لقد أعرضت أرديرن عن ذكر اسم الإرهابي، لأن هذا غرق في التفاصيل السلبية، فالغرق فيها سيزيدنا منها، من الذي قتل ولماذا قتل؟ كل هذا سيزيد من إذكاء روح العداوة بين أتباع الديانات الكبرى، وهذه ليست طريقة صحيحة في التفكير والفعل. الخطوة الثانية للسيدة أرديرن، كانت إعلام البرلمان بأن مواقع التواصل الاجتماعي يجب أن تحد من السهولة التي تسخّر بها الإنترنت لإثارة الكراهية ونشر صور العنف: "لا يمكننا أن نجلس ببساطة ونقبل بوجود هذه المنصات، ونرضى بما تقوله من أنه ليس مسؤولية الموقع ما ينشر فيه، بحيث تكون أرباحاً بلا مسئولية"، هكذا تحدثت ووصفت شركات التواصل الاجتماعي من مثل تويتر وفيس بوك، بأنها تشبه مصانع الأسلحة ومروجيها، وأنها تتحمل جزءاً من المسئولية عن الكارثة التي وقعت.

بالطبع أن قرار الحد من بيع الأسلحة سيخوض أولاً عدة معارك قانونية ليصبح ساري المفعول، لكنها خطوة في الطريق الصحيح. وخطوة أخرى أن نتساءل: ألم نكتف بعد من المعاناة من الإرهاب؟ يجب أن نصل إلى الشعور بالاكتفاء، لأن هذا الشعور عندما يصبح وعياً جمعياً، عندها يمكن أن نتحدث عن تحول جديد في حياة البشر. هل لنا أن نحلم بعشر سنين تخلو فيها الأرض من هذا الوباء؟ خمسين سنة؟ قرن من الزمان؟ هل هذا الحلم قابل للتحقق؟ أعتقد هذا، لكننا بحاجة إلى أن نرسم خريطة للحلم، خريطة لعالم يتحدث عن التسامح والسلام ولا يسمح بالدعوة للكراهية والعنصرية ولا ينشر صور الإرهابيين. إنه حلم واقعي وجميل في الوقت نفسه، سينساق إليه كل إنسان، لأن هناك بذرة خير في كل روح.