طفل سوري على الرصيف (أرشيف)
طفل سوري على الرصيف (أرشيف)
الأحد 24 مارس 2019 / 19:42

ربيع المآسي

في شتاء عام 1944، كانت الحرب العالمية الثانية قد بلغت أوْج مأساتها في هولندا، حيث تقلصت المؤن في المدن الكُبرى مثل أمستردام، وروتردام، وتدنت حصة الفرد من السعرات الحرارية إلى 400 سعرة حرارية في اليوم الواحد. مات آلاف الناس من المجاعة التي أطلق عليها اسم hongerwinter، أما من بقي حياً، فقد حُفرت في ذاكرته تفاصيل الكارثة المُروعة.

إذا صحت نظرية الذاكرة الجينية، فإننا -في مرحلة ما بعد الربيع العربي- ننتظر قنبلة موقوتة توشك أن تتفجر وتتطاير في كل مكان

عانى أطفال الحرب من سوء التغذية، والقلق، وأمراض القلب، وهشاشة العظام، وداء السكري، أما المواليد الذين لم يشهدوا الحرب ولكنهم وُلدوا من رَحِم نساء شهدنها، فقد أصيبوا بمعدلات أعلى من أمراض السمنة والقلب.

حلل العلماء سبب ذلك وتوصلوا إلى نظرية الذاكرة الجينية، التي تقول إن الجين حين يواجه سوء تغذية داخل الرحم، فإنه يُعدل تمثيله الغذائي ليحوز أعلى كميات من الدهون ويحمي نفسه من شُح الطاقة.

أصبح علم ما فوق الجينات Epigenetic تحت مجهر البحث العلمي بعدما كان خيالاً لا يُصدق، وصار العلماء يتحدثون عن تنشيط أو إخراس الجينات عبر منظمات بروتينية تتأثر بالبيئة وتستطيع وضع أختام على سلاسل DNA الوراثية كما ينقل سيدهارثا موكيرجي في كتابه "الجين".

تنعش هذه الفكرة نظرية لامارك، التي دحضها العلماء في السابق، التي تجعل الصفات الموروثة مُتأثرة بالبيئة، وهي تقترب من مبدأ ليسينكو الذي أراد إعادة تربية القمح بالحرمان والصدمة ليشتد عودها وتزيد إنتاجيتها، فما كان من تجربته سوى التسبب في هلاك المحاصيل.

إذا صحت نظرية الذاكرة الجينية، فإننا، في مرحلة ما بعد "الربيع العربي"، ننتظر قنبلة موقوتة توشك أن تتفجر وتتطاير في كل مكان، فنساء وأطفال ومواليد الثورات والحروب والمجازر والمجاعات، أياً كان المُتسبب فيها، سيورثون تلك الذاكرة الأليمة بما تحمله من بؤس وفقر وحرمان وأمراض عضوية ونفسية إلى الأجيال القادمة، وسندور في تلك الحلقة التي لاتزال تدور وتصارع وتراوح مكانها منذ نكبة فلسطين إلى يومنا هذا.

تُثير إعجابك شجاعة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، غفرت لألمانيا نازيتها العنصرية، ولإيطاليا فاشيتها الهمجية، واختارت طريق السلام والتسامح وطيْ صفحات الماضي، فطريق الثارات والانتقام والتطرف ليس آخره سوى نقطة البداية مرة أخرى.