الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (أرشيف)
الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (أرشيف)
الثلاثاء 26 مارس 2019 / 19:58

مدار الانكفاء

بشكل أو بآخر يعبر الاحتفال بيوم "الثقافة الفلسطينية" عن محاولات لتهشيم وإعادة تكييف هوية مرت بمراحل مختلفة من الاتساع والضيق على مدى العقود الستة الماضية، ويُلقي بعض الضوء على هشاشة مشروع سياسي يحاول أصحابه إبقاءه في غرفة الإنعاش رغم موته السريري.

تكرس هذه المعطيات وغيرها قناعة بانحدار يوم الثقافة الفلسطينية من نزعات تطرف في صناعة الهوية أظهرتها حركة فتح مبكراً

في أحسن أحواله، يُوحي اليوم الذي تحتفل به المؤسسة الرسمية الفلسطينية سنوياً بانتظام جرعات القطيعة والانغلاق لتكريس ثقافة قطرية تشتبك مكوناتها مع انتماءاتها القومية، وربما فضاءها الإنساني الأرحب، لكن الأمر لا يخلو من تحديات تعترض أثر هذه الجرعات.

أمام حقيقة انتماء الفلسطينيين لثقافة عربية لا تزال قادرة على الاحتفاظ بحضورها وارتباطها بقضية الشعب الفلسطيني والبعد التحرري الجامع للهوية الفلسطينية، يتهافت مبرر الخصوصية الذي يمكن أن يطرحه مفتون بالقطرنة للرد على انتقاد هنا أو هناك.

حجة التمييز الجغرافي للفلسطينيين عاجزة عن توفير روافع لمنطق تأميم الثقافة حيث تفرض مشتركات الفلسطيني مع الجوار اللبناني، والسوري، والأردني، والمصري حضورها بشكل متفاوت في ساحل البلاد وضفتها الغربية وقطاعها، وهناك أيضاً فلسطيني الشتات المتأثر بثقافة المجتمع الذي يعيش فيه.

لا تخلو تسمية اليوم المحتفى به من التباسات يفترض أن لا تغيب عن أذهان المثقفين الذين حافظوا على بقائهم بعيداً عن ذهنية منح الولاءات لأبوات وصلوا مرحلة الإفلاس السياسي بعد مغامرات فاشلة، فمن الممكن إطلاق المصطلح الفضفاض على نتاجات المتحدرين من أصول فلسطينية، ويمكن تعميمه ليشمل مجمل الابداعات العربية والعالمية التي تناولت تشعبات قضية فلسطين وشعبها.

فرضية الإقصاء قائمة أيضاً. ففي حال اقتصار الثقافة الفلسطينية على المبدعين وأنصاف وأرباع المثقفين الفلسطينيين يعني ذلك تجاهل مبدعين عالميين وعرب يصعب إحصاءهم، مثل جان جينيه، وفانيسيا ريدغريف، وسعدالله ونوس، والياس خوري، واسماعيل فهد اسماعيل، وعبدالرحمن الأبنودي، ونور الشريف وغيرهم من الذين حلقوا بالوجع الفلسطيني في سماء الابداع، واذا تم اطلاق المصطلح على الحالتين معاً لن يبقى فلسطينياً صرفاً.

في ربط "يوم الثقافة الفلسطينية" بميلاد محمود درويش إيحاءات أخرى بالاقصاء المتعمد، فمن المعروف عن الشاعر الذي حولته مؤسسة المنظمة والسلطة إلى واحد من رموز القضية، أنه كان على الدوام مثقف سلطة مرتبطاً بياسر عرفات ولم يبتعد عن إفرازات اتفاق أوسلو، ما يعني إذكاء حالة من الفرز تفضي إلى استبعاد المبدعين الذين برزوا خارج أطر المؤسسة وحساباتها مثل ناجي العلي، ومحمد الأسعد، أو تمردوا عليها مثل ناجي علوش.

تُكرس هذه المعطيات وغيرها قناعة بانحدار يوم الثقافة الفلسطينية من نزعات تطرف في صناعة الهوية أظهرتها حركة فتح مبكراً حين حرمت المناضلين العرب الذين انضموا إليها من عضويتها، وأبقتهم على الهامش، ولم يخل الأمر من انسياق بعض تنويعات اليسار الفلسطيني وراء هذه النزعات دون وعي حقيقي لمآلاتها المحتملة.

تمد جذور محاولات تأميم "الهلامي" بعد الاخفاق في تحرير "المادي الملموس" إلى جوهر تفكير أصحاب نهج كمبرادوري يسعى إلى خصوصية السوق، ويصطدم بانعدام أقل مظاهر السيادة على الأرض، الأمر الذي أثبت فشله قبل اتفاق أوسلو وبعده، ويقود في أحسن أحواله إلى توفير إطار ديماغوجي لمزيد من الارتدادات والانكفاءات.