غلاف كتاب "المستقبل، مقدمة وجيزة".(أرشيف)
غلاف كتاب "المستقبل، مقدمة وجيزة".(أرشيف)
الخميس 4 أبريل 2019 / 20:39

"المستقبليات" الاستبصار المعرفيّ الذي لا بدَّ منه!

هناك تحديات كبرى تواجه العالم مستقبلاً، وبإمكان مثل هذه الدراسات العابرة للمعرفة "المستقبليات" أن توفِّر "استباقات" معرفية حقيقية

جينيفر.م. غيدلي هي رئيسة الاتحاد العالميّ لدراسة المستقبليات، وقد نشرت في عام 2017 كتاباً عن علم "المستقبليات" أسمته "المستقبل، مقدمة وجيزة "The Future: A Very Short Introduction، وهذا الكتاب كما وصفه البروفسور ويندل بيل من جامعة "يال" هو توصيف مدهش لحقل الدراسات المستقبلية، ولكيفية تمكن البشر من اختيار المستقبل وصنعه".

ثمّة مصطلحات عدة لوصف دراسة المستقبل منها "دراسة المستقبليات" و"الاستبصار" و"الاستشراف". وفي مقتبل القرن العشرين، شاع مصطلح "التنبؤ" لوصف أيّ ضرب من الكتابة عن المستقبل. وفي أعقاب النجاح الذي حظي به نشر كتاب ويلز الريادي "استباقات" في عام 1901، دُعي لإلقاء محاضرة في المعهد الملكيّ في لندن، نُشِرت لاحقًا بعنوان "اكتشاف المستقبل". The Discovery of Future وقد أعلن ويلز وجود حاجة ماسة عالمية ل"دراسة أكاديميّة للمستقبل" ذات طبيعة منهجيّة.

وقد ندّد ويلز في عام 1923 في بث إذاعيّ بأنَّه على الرغم من وجود آلاف من أساتذة التاريخ إلا أنَّه لا يوجد أيّ أستاذ استبصار في العالم! والآن وبعد مرور عقود طويلة على هذا الكلام أصبح لدينا في العالم بعض الجامعات المرموقة علميًا التي تندرج دراسة "المستقبليات" ضمن برامجها الأكاديمية الرئيسية، وبالتالي نحن نتحدث إذن عن حقل أكاديميّ عابر للحقول المعرفيّة، يضمُّ التربية والفلسفة والسوسيولوجيا والتاريخ وعلم النفس والنظرية الاقتصادية وغيرها من معارف متعددة.

إنَّ إضفاء صيغة الجمع على المستقبل يشرعه أمام تصوّر مستقبليات بديلة للأمر الواقع وخلقها. وهو يخلق فضاءً مفهومياً لاستكشاف كيف أنَّ نظرية دراسات المستقبليات وممارستها تأخذ مجراها اليوم في مناطق جغرافية مختلفة، وكيف يمثل هذا الحقل على نحو متنوع علماء وممارسون وباحثون على الصعيد العالميّ.

في أعقاب الحربين العالميتين والكساد الكبير، زرع الأفراد الملتزمون بمستقبليات عالمية ديمقراطية بذورًا لحقل دراسات المستقبليات التعددية. ومنذ خمسينيات القرن العشرين، أبحر رواد من علم النظم وعلم الاجتماع وأبحاث السلام والصحافة واللاهوت ووسائل الإعلام في دراسات المستقبليات، بعيدًا عن المجمع العسكري الصناعي، نحو مقاربات أكثر إنسانوية وسلمية ومساواة، كما تذكر غيدلي.

وتُعد "المستقبليات الثقافية" واحدة من أبرز التطورات المعرفية الهائلة في هذا الحقل المهم من الدراسة؛ إذ تدور مقاربة المستقبليات الثقافية أساسًا حول استخدام عدسة متعددة الثقافات للتفكير في المستقبليات. وهي تتحدّى، على غرار المستقبليات النقدية، النموذج الثقافيّ العالميّ المهيمن، وتوسعه باستكشاف نماذج حضارية بديلة. فمن وجهة نظر المستقبليات الثقافية، يُفك الارتباط بين مفهوم التنمية والنزعة الصناعية والنمو غير المحدود وإدمان النزعة الاستهلاكية. وقد ميّز ظهور هذه المقاربة في ثمانينيات القرن العشرين تضمين الخطاب ما بعد الاستعماريّ في دراسة المستقبليات.

والتزم الاتحاد العالميّ لدراسات المستقبليات منذ البداية بتمثيل عالميّ حقيقيّ من خلال مشاركين من إفريقيا والهند وأمريكا اللاتينية وآسيا والمحيط الهادئ.
هناك تحديات كبرى تواجه العالم مستقبلاً، وبإمكان مثل هذه الدراسات العابرة للمعرفة "المستقبليات" أن توفِّر "استباقات" معرفية حقيقية بما يقودنا من الآن إلى التخطيط للمستقبل.

لقد انتبهت بعض الجامعات العالميّة المرموقة إلى إدراج هذه الدراسات المهمة جدًا في مناهجها الأكاديميّة، كما أُنشِئَتْ في العالم عدد من مراكز دراسات المستقبليات وفق مقاربات مختلفة. نحن بحاجة في جامعاتنا العربيّة إلى وجود مثل هذا التخصص الأكاديميّ. وأشير في هذا المقام باعتزاز إلى مشروع عالم الاجتماع المغربيّ المهدي المنجرة (1933_2014) الذي اشتعل بعمق منهجي على الدراسات المستقبلية، وقد حظيت استشاراته بعناية عدد كبير من الدول المتقدمة بما في ذلك اليابان التي منحته وسام الشمس المشرقة من قبل إمبراطورها، كما وصفه ميشال غوبير بلقب "المنذر بآلام العالم".

وقد اعترف صموئيل هنتنغتون بأسبقية المهدي المنجرة في اجتراح مصطلح "صدام الحضارات". كتاب "المستقبل، مقدمة وجيزة" من ترجمة رندة بعث، ومن إصدارات مشروع نقل المعارف الذي تشرف عليه هيئة البحرين للثقافة والآثار.