حملة تطعيم في الهند (أرشيف)
حملة تطعيم في الهند (أرشيف)
الأحد 7 أبريل 2019 / 19:45

التطعيم والتنوير

جلب المستعمر معه الأمراض والآفات حين دخل الأمريكيتين، وأستراليا، وأفريقيا، والهند، فكان كلما دخل منطقةً نقل إليها أمراضه الخاصة التي لا يحمل سكانها أي مناعة ضدها، فيهلك منهم الآلاف بحد "داء السُفن" كما كان يسميه السكان المحليون، قبل هلاكهم بحد البندقية.

استغرقت رحلة التطعيم في الهند 170 ليستوعبها الناس ويقتنعوا بها ويمارسوها ويدعوا إليها. احتاجوا ١٧٠ سنة ليتعلموا الفصل بين الفكرة التغريبية المُعادية والفكرة التجريبية البحتة

لكن الإنصاف يجعلنا نعترف بأن الاستعمار ليس شراً محضاً، فأحياناً قد يكون سبباً لحياة الملايين بما كان يحمله من علوم تطبيقية، وتقنيات حديثة، ويكون كمن يتصدق بيد ويسرق بالأخرى.

من بين قائمة الأوبئة في التاريخ، يُعتبر مرض الجدري من أسوأ الأمراض المُعدية سُمعة إلى جانب شقيقاته الكبرى الطاعون والكوليرا والإنفلونزا والزهري وغيرها، في القرن التاسع عشر، كان هذا المرض مسؤولاً عن وفاة أعداد كبيرة من الهنود، إلى جانب أنه سبب رئيسي للعمى عندهم.

كان الهنود يقومون بالتلقيح المباشر للمرض، والذي يعني أخذ مادة التطعيم مباشرة من الطفح الجلدي الذي يظهر مع الجدري، بعد رشها بماء نهر الغانج المقدس، ويُقال إتقنية التلقيح المباشر انتشرت في بلاد السند مع دخول المسلمين إليها.

أما الجنوب الذي يقدس الإلهة "سيتالا"، فإنه كان يُنظر له كطقس ديني يؤديه البراهما مصحوباً بالأغاني والصلوات التي تتضرع للآلهة وتقدم لها القرابين، حتى أصبح للجدري "المحظوظ" آلهة تُخشى وتُعبد.

بينما كان المستعمرون يؤمنون بنظرية الجراثيم المُسببة للأمراض، كان الهنود يُلصقون تلك الأوبئة بالمعتقدات الدينية التي تجعل الوقاية بيد "سيتالا" و"مارياما" وغيرهما من الآلهة، وكانوا يتجنبون حرق مرضى الجدري، كما جرت العادة مع موتاهم، خوفاً من إصابة تلك الآلهة بشظايا النار كما يقول ديفيد أرنولد في كتابه "الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية".

كان التطعيم الحديث في نظر المستعمر هو أداة لترسيخ النظام وفرض التحضر وإثبات حسن النية، وكان ينافس تقنية التلقيح القديمة إلا أنه كان أكثر أماناً وعلمية، مع ذلك قوبل بالرفض والتجاهل من السكان المحليين الكارهين للتجديد، والرافضين لأي شكل من أشكال العلاج الذي لا يرتبط بمعتقدهم الميتافيزيقي.

اضطرت الحكومة البريطانية إلى اللجوء إلى طبقة المُعلمين من البراهما ليصدروا فتاوى تنفي تحريم التطعيم من النصوص الهندوسية المقدسة، لكن لم تنفع تلك الوسيلة كثيراً مع وجود فتاوى أخرى مُحرمة، فلجأت الحكومة إلى فرض التطعيم بالإكراه في بعض المناطق، فتسبب ذلك في انخفاض ملحوظ في أعداد الوفيات في بومباي وكراتشي، وعندها لان الهنود شيئاً، فشيئاً.

استغرقت رحلة التطعيم في الهند 170 عاماً ليستوعبها الناس ويقتنعوا بها ويمارسوها ويدعوا إليها.

احتاجوا 170 عاماً ليتعلموا الفصل بين الفكرة التغريبية المُعادية والفكرة التجريبية البحتة، بين احتلال وطغيان المستعمر وحضارة وعلوم ذلك المستعمر.

اليوم نقول إن الهند عظيمة بما تحمله من تنوع ثقافي وحضاري وعلمي، فقد تعلمت كيف تنطلق من جذورها دون أن ترتجف وترتعد من خوف تقليم الآخرين لأصولها.