النيران ترتفع من سقف كاتدرائية نوتردام (أف ب)
النيران ترتفع من سقف كاتدرائية نوتردام (أف ب)
الخميس 18 أبريل 2019 / 21:08

حريق نوتردام والوعي الحضاري الفرنسي التأسيسي

حريق كاتدرائية نوتردام دو باري كشف عن الوعي الحضاريّ العميق للفرنسيين تجاه إحدى أيقونات وعيهم الحضاريّ التأسيسيّ


تكشف المحن الكبرى التي تمرُّ في تاريخ أيّ دولة من دول العالم عن حجم الوعي الحقيقيّ الذي تمتلكه شعوبها تجاه أوطانها وهويتها وذاكرتها الثقافيّة ووعيها الحضاريّ التأسيسيّ بذلك.

إنَّ الحريق الضخم الذي اندلع في الأيقونة الباريسيّة "كاتدرائية نوتردام دو باري" قبل أيام قلائل، لم يكن مجرد حدث عابر يمرُّ سريعًا في ضجيج واكتظاظ متلاحق لمئات من أخبار تجري في العالم كلّه في الوقت نفسه.

إنَّ هذا الحريق كان حريقًا أشعل قلوب ملايين الفرنسيين حزنًا وتفجعًا على رؤية قلبهم الدينيّ والتاريخيّ وهو يحترق. ولم يكن حريق كاتدرائية نوتردام دو باري حدثًا عابرًا، والدليل على ذلك أنَّ رئيس الجمهورية الفرنسيّة إيمانويل ماكرون يشارك ملايين الفرنسيين أحزانهم ويعلن في خطاب رسميّ من قصر الإليزيه أنَّه يتعهد بإعادة المعلم الباريسيّ الشهير خلال خمس سنوات، ويؤكد: "حريق نوتردام يذكرنا بأنَّ تاريخنا لا يتوقف أبدًا فإنّنا سنواجه دائمًا تحديات يجب التغلب عليها".

كما يبدي ماكرون اعتزازه بالفرنسيين قائلاً "ما شاهدناه هذه الليلة هو القدرة على التعبئة والتوحّد...خلال تاريخنا قمنا ببناء مدن وموانئ وكنائس، والعديد منها احترق لكننا أعدنا البناء". وعندما وجَّه ماكرون نداء وطنيًا لإعادة الترميم بادرت المجموعات الصناعية الفرنسية الكبرى وعدد كبير من الأثرياء بالتبرع، وبلغ قيمة ما تبرعوا به خلال هذه الأيام فقط أكثر من 700 مليون يورو. وخطاب ماكرون كان مصاغًا في خطاب عاطفي يخترق قلوب الباريسيين وعقولهم؛ ففي تغريدته على تويتر وظّف ماكرون المجاز بقوة: "أنا حزين هذا المساء لرؤية جزء منا يحترق!".

منذ تأسيس هذه الكاتدرائية الباريسيّة العريقة بين القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديّ، وهي ترتبط بالأساطير المؤسَّسة لشخصية "الأمة الفرنسيّة"؛ فهذه الكاتدرائية ذات الطراز القوطيّ والمنتمية إلى الحقبة القروسطية كانت مقرًا لأبرشية باريس، وبُنيت في قلب باريس التاريخيّ على ضفاف نهر السين لتُمنح منذ البدء إطلالة تاريخية مهيبة جدًا.

كما أنَّ هذه الكاتدرائية اكتسبت بعدًا أدبيًا متخيلاً مع رواية "أحدب نوتردام" للروائيّ الفرنسيّ فيكتور هوغو 1831، ويعود الفضل إلى هوغو في جعل هذه الكاتدرائية مزارًا سياحيًا يستقطب ملايين الزوار كلّ عام. والمرة الأولى التي رأيتُ فيها هذه الكاتدرائية كنتُ شخصيًا أتخيل أحدب نوتردام مختبئًا في أحد أبراجها ويطلُّ بغموض على زائري المكان ثم يختبئ بسرعة! وأزميرالدا الغجرية تمارس سطوة غوايتها الغامضة عليه! حدث ذلك من فرط تأثري برواية "أحدب نوتردام" فما بالكم بملايين البشر حول العالم ممن قرأوا هذه الرواية ورسخت في ذاكرتهم! وكاتدرائية نوتردام شهدت أحداثًا تاريخية مفصلية في التاريخ الفرنسيّ: دُمِرت أجزاء منها ونُهبت بعض لوحاتها في سياق الفوضى الكبيرة التي صاحبت بدايات اندلاع الثورة الفرنسية كما شهدت تتويج نابليون بونابرت إمبراطورا لفرنسا، وجنائز عدد كبير من رؤساء الجمهورية الفرنسية الثالثة.

حريق كاتدرائية نوتردام دو باري كشف عن الوعي الحضاريّ العميق للفرنسيين تجاه إحدى أيقونات وعيهم الحضاريّ التأسيسيّ، وكشف هذا الحريق كذلك عن حجم التضامن الذي يرسخ مفهوم "الأمة الفرنسيّة" عندما تحافظ على أبجدياتها الحضارية، وتداعي هذه الأمة لإنقاذ رمزها الدينيّ والتاريخيّ. حريق نوتردام دو باري كان كاشفًا حقيقيًا للوعي الفرنسيّ الحضاريّ التأسيسيّ... هكذا أراه.