قادة جمعية الاتحاد والترقي التركية أوائل القرن العشرين.(أرشيف)
قادة جمعية الاتحاد والترقي التركية أوائل القرن العشرين.(أرشيف)
الأربعاء 1 مايو 2019 / 20:30

تاريخ إبادة الأرمن

نية الأتراك لم تكن إعادة إسكان الأرمن بعد وصولهم إلى أماكن التهجير المنشودة، بل النية كانت إبادة كل قوافل الأرمن المُهجَّرة في الطريق

ذكر أوهاكن دادريان في كتابه "دور الأطباء الأتراك في المذابح الأرمنية أثناء الحرب العالمية الأولى"، أن المحكمة العسكرية التركية، حققت مع مرتكبي الجريمة ما بين عام 1918 وعام 1919. وصف الأطباء الأتراك الذين وقفوا أمام المحكمة العسكرية، القصص العديدة عن زملائهم الذين قاموا بتسميم الأرمن، واغتصابهم، وإغراقهم في البحر، وتقطيعهم إرباً، وإجراء التجارب الطبية عليهم.

يمكن مُقارَنَة هذا القتل الممنهج بممارسات الأطباء النازيين في الحرب العالمية الثانية، وليس هناك أمل في أن تنتج هوليوود فيلماً عن مجازر الأرمن على يد الأطباء الأتراك، كما أنتجتْ فيلم "Death And Maiden" أو "العذراء والموت" 1994 للمخرج رومان بولانسكي، وهو فيلم فيه الممثل بن كينغسلي في دور الطبيب ميراندا، التابع للحكم النازي، والذي قام في زمن سابق، بتعذيب واغتصاب الممثلة سيغورني ويفر في دور باولينا، والصدفة وحدها، تأتي بالطبيب ميرندا بعد زمن، إلى منزل باولينا التي تقوم بتعذيبه، لانتزاع اعتراف مُسجَّل منه، بأنه هو مَنْ عذبها.

الطبيب ناظم والطبيب بهاء الدين شاكر كانا وجهين مهيمنين على القيادة المركزية العليا لحزب الاتحاد والترقي التركي الذي وصل إلى الحكم 1908. تلقى ناظم وشاكر تعليمهما الطبي في إسطنبول، وأكمل ناظم تدريبه المهني في باريس، حيث كان هو وشاكر لاجئين سياسيين يخططان لقلب نظام عبد الحميد الثاني.

أظهرتْ المحاكم العسكرية التركية في جلساتها 1919 و1920، أن هذين الطبيبين، ناظم وشاكر، لعبا دوراً رئيسياً في توجيه تشكيلات من عصابات القتل والإبادة. كان غطاء تلك العصابات، أنهم يعملون كمتطوعين في جبهة القوقاز ضد روسيا، بينما كانت المهمة الحقيقية هي إفناء قوافل المهجرين الأرمن.

أشار أحد بنود عريضة اتهام الطبيب ناظم، بأنه كان شخصياً من صانعي القرار في المذابح الأرمنية، واعترف بأن التدابير ضد الأرمن، قُررت بعد مُداولات عميقة ومستفيضة من قِبَل اللجنة المركزية للحزب.

واعترف أيضاً خمسة من زعماء الاتحاد والترقي، بأن الطبيب بهاء الدين شاكر، كان قائد فرق الموت التي تعمل في المقاطعات الشرقية. وقال وهيب باشا قائد الجيش الثالث أثناء التحقيق: إن ذبح وإفناء الأرمن وسلب ممتلكاتهم كان قراراً من حزب الاتحاد والترقي، وأن الطبيب بهاء الدين شاكر، هو مَنْ جاء بجزَّاري البشر إلى منطقة الجيش الثالث، ثم قادهم واستخدمهم في تلك الفظائع.

كان تهجير الأرمن ذريعةً، وقناعاً للإبادة. استشهدتْ المحكمة العسكرية الاستثنائية، ببرقية للطبيب بهاء الدين شاكر، بعث بها للسكرتير الأول في مدينة خربوط، نصها كالتالي: هل صُفي الأرمن المهجرون في منطقتكم؟ هل أبيدوا أم هُجِّروا فقط؟ أوضح لي هذه النقطة يا أخي.

بعد انتهاء الحرب بفترة قصيرة 1918، كان هروب زعماء الاتحاد والترقي، هروباً جماعياً، وعلى ظهر باخرة عسكرية ألمانية. كانت المخابرات الألمانية على علم بحقائق مذابح الأرمن، إلا أن إدانة الدولة العثمانية كانت إدانة شكلية من قِبَل ألمانيا، كما كانت المحاكمات العسكرية التركية، مُحاكمات شكلية لا تصل إلى حد العقاب.

في عام 1919، وبعد هروب مجرمي الاتحاد الترقي، حكمتْ المحكمة العسكرية التركية، بالموت على الطبيبين ناظم وبهاء الدين شاكر، وصدر الحكم غيابياً، أي أن المُحاكمات لم تكن جادة، بل كانت تبريداً للرأي العام العالمي، وهو رأي عام كان على استعداد لهضم تمثيلية المُحاكمات الصورية التركية.

أُغْتيل الطبيب بهاء الدين شاكر في برلين عام 1922 من أحد أعضاء "كوماندوز العدالة الأرمنية". كما أُغْتيل في برلين أيضاً، طلعت باشا، أحد أبرز قادة جمعية الاتحاد والترقي، في عام 1921. ارتعب الطبيب ناظم، وطلب من الحكومة الألمانية المزيد من الحماية، إلا أن الحكومة الألمانية لم تحرك ساكناً، فرجع ناظم إلى تركيا بعد أن حصل من الزعماء الجدد، على تطمينات تؤكد بأن كل الاتحاديين الذين هم عرضة لخطر الانتقام، سيُرحب بهم في الوطن، بشرط ألا يُعادوا النظام الجديد. وهذا دليل آخر أن المُحاكمات التركية كانت شكلية من الأساس.

ومع هذا حاول الطبيب ناظم الإطاحة بنظام مصطفى كمال أتاتورك، وإعادة السلطة إلى جمعية أو حزب الاتحاد والترقي. حوكم الطبيب ناظم في أنقرة، وحُكم عليه بالموت شنقاً، ونُفذ الحكم في 1926. صفّى مصطفى كمال أتاتورك كثيراً من الاتحاديين، ليس بسبب المذابح التي ارتكبوها ضد الأرمن، بل بسبب أنهم ضده، أي أن أتاتورك لم يكن يرى جريمة في إبادة الأرمن.

نشرتْ وزارة الخارجية البريطانية مجموعة من الوثائق، جُمعت وصُنفت من قِبَل المؤرخ وفيلسوف الحضارات الكبير أرنولد توينبي، وجاء في الوثائق، أن نية الأتراك لم تكن إعادة إسكان الأرمن بعد وصولهم إلى أماكن التهجير المنشودة، بل النية كانت إبادة كل قوافل الأرمن المُهجَّرة في الطريق.

وفي شهادة خطية لوزارة الخارجية البريطانية أكد الطبيب وايت، رئيس كلية أناضوليا في ميرزيفون، والذي كان شاهداً على مذابح الأرمن في تلك الفترة، أن مجرمين عديدين أخلى سبيلهم من السجون، وأن مواقع المجازر كانت غاصة بعصابات الخارجين على القانون، فمن أصل إثني عشر ألفاً من الأرمن، بقي عدة مئات منهم في ميرزيفون. كان المهجرون الأرمن يقولون لأصحابهم: صلوا من أجلنا، لن نراكم بعد الآن في هذه الدنيا.