الباحث التراثي والشاعر الإماراتيّ الراحل أحمد راشد ثانيّ. (أرشيف)
الباحث التراثي والشاعر الإماراتيّ الراحل أحمد راشد ثانيّ. (أرشيف)
الخميس 2 مايو 2019 / 19:48

أحمد راشد ثاني.. والسرد الشفاهي في الإمارات

وجدت متشابهات كثيرة بين الحكايات الشعبيّة البحرينية والحكايات الشعبيّة الإماراتية بحكم الأصل المشترك والجغرافيا الثقافيّة

يُعد الباحث التراثي الإماراتي المرحوم أحمد راشد ثاني ( 1962_2012 ) واحداً من أبرز المشتغلين على توثيق الثقافة الشعبيّة الإماراتيّة من مصادرها الأصلية من الرواة، وعدم الاكتفاء بمرحلة الجمع والتوثيق الميدانيّ وإنَّما تجاوزها من خلال اشتغالات منهجية عميقة جداً لتسويقها ثقافيًا، والتعريف بها لدى شرائح واسعة من المتلقين العرب على اختلاف مرجعياتهم الفكرية.

شخصياً عرفت المرحوم أحمد راشد ثاني من خلال قراءة منجزه التراثي، وأول ما بدأته قراءة دراسته المهمة جدًا عن سيرة الشاعر الإماراتيّ "الماجديّ أو المايدي بن ظاهر" في كتابه "ابن ظاهر، بحث توثيقي في سيرته الشعبية". وأشير هنا باعتزاز وتقدير إلى الدراسات المعمقة عن المايدي بن ظاهر توثيقًا ونقدًا التي أنجزها الناقد الإماراتيّ سلطان العميمي. ولقد كان لاشتغال الزميل العزيز الدكتور علي بن تميم، على هذه السيرة ثقافياً في دراسة محكمة فضل تنبيهي إلى ضرورة التوقّف عند مشروع أحمد راشد ثانيّ. وفي سنوات لاحقة استطعتْ اقتناء شريط كاسيت من إصدارات هيئة أبوظبيّ للثقافة، وكان هذا الشريط يحمل اسم "حصاة الصبر"، وهي واحدة من حكايات شعبيّة إماراتيّة ثلاث مروية باللهجة المحكية الإماراتيّة من قبل إحدى الروايات الإماراتيات.

لقد أعجبني هذا التوثيق السمعيّ للحكايات الشعبيّة الإماراتيّة بالمنطوق الشعبيّ الإماراتيّ وليس بتحويلها إلى الفصحى، وأحسب أنَّ هذا المشروع لو استمرَّ فإنهَّ كان سيقدم لنا مادة توثيقية على درجة عالية من الأهمية للباحثين في مختلف أنحاء العالم. وطوال سنوات عدة وإلى الآن أدرس طلابي في مقرر" الأدب الشعبيّ"، بكالوريوس اللغة العربية وآدابها في جامعة البحرين مشروع السرد الشفاهيّ الإماراتيّ، ووجدتُ متشابهات كثيرة بين الحكايات الشعبيّة البحرينية والحكايات الشعبيّة الإماراتية بحكم الأصل المشترك والقرب الجغرافيّ و الجغرافيا الثقافيّة، وأحد أهم مصادري في ذلك مشروع أحمد راشد ثانيّ.

وثَّق أحمد راشد ثاني بدء اهتمامه بجمع السرد الشفاهيّ الإماراتي بأواخر ثمانينيات القرن العشرين عندما كلّفه صديقه الشيخ أحمد بن سلطان القاسميّ رئيس دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة آنذاك بتأسيس مكتبتين عامتين في كلبا وخورفكان، وبدأ منذ تلك اللحظة التاريخية مشروع الباحث لجمع التراث الشعبي الإماراتي من خلال تكليف بعض الطلاب والطالبات لتسجيل أنواع التراث الشعبيّ من أفواه الرواة مباشرة، كما عثر الباحث على كمية كبيرة من الجمع الشعبيّ الذي أنجزه بعض طلاب جامعة الإمارات بتكليف من أحد أساتذتهم العرب.

وفي أواخر تسعينيات القرن العشرين وبتشجيع من الأستاذ جمعة القبيسي الوكيل المساعد لدار الكتب الوطنية آنذاك، المجمع الثقافيّ بدأ أحمد راشد ثانيّ في إصدار أربعة أجزاء من السرد الشفاهيّ الإماراتيّ التي شملت دفاتر خورفكان ومجموعة الأستاذ الجامعي "المغادر" وأخيرًا دراسة نقدية لهذا المجموع الحكائي الشعبيّ الإماراتيّ. وتمثل مجموعة "حصاة الصبر" مجموعة حكائيّة مصدرها راوية واحدة هي السيدة كلثم أحمد المطوع البالغ عمرها في ذلك الوقت ستين سنة.

إنَّ أهمية مشروع أحمد راشد ثانيّ التوثيقيّ السرديّ الشعبيّ في كونه يشتمل على أفكار مولِّدة في غاية الأهمية؛ فقد أورد على سبيل المثال لبعض الحكايات الشعبيّة أكثر من رواية وذلك دليل وعيه بالممكنات التأويليّة والإبداعيّة للحكايات الشعبيّة التي لا تتأطّر برواية واحدة وإنَّما تأخذ في النمو والاختلاق والتحوّل. كما تنبَّه الباحث إلى الممكنات اللانهائية لتحويل أساس هذه الحكاية أو الرواية المثبتة إلى نتاجات عديدة وإعادة إنتاج لانهائيّ: من نص أدبيّ وحتى المسرح والسينما والتلفزيون والتشكيل.

إنَّ أحمد راشد ثانيّ هو واحد من أسماء مهمة جدًا في توثيق التراث الشعبيّ الإماراتيّ سأخصص لهم مقالات قادمة. وأنا فخورة جدًا بهذه الجهود التأسيسيّة الإماراتيّة في مجال حفظ الذاكرة الشعبية بوصفها مكوّنا أساسيًا لحفظ هوية الشعب الإماراتيّ. وهو الحرص الذي وجدته يتمثل في القيادات السياسيّة الإماراتيّة الحكيمة الواعية بقيمة التراث الإماراتيّ وإنسانيتيه إلى الشعب الإماراتيّ الذي لايزال محافظًا على هويته الشعبيّة ومعتزاً بـ"رمسته" الرائعة وبعاداته وتقاليده الأصيلة وغيوراً عليها.

قبل أشهر افتتحت في إمارة الشارقة مدرسة دوليّة لفنون الحكي تابعة لمعهد الشارقة للتراث الذي يرأسه الدكتور عبدالعزيز المسلم، وهو المعهد الذي استطاع خلال سنوات أن يرسخ وجوده ليس إقليميًا فقط وإنَّما عالميًا، كما التفت المعهد وبعمق إلى تأهيل الرواة الشعبيين الإماراتيين وفق أحدث الطرائق المنهجية للتوثيق. ولاشكَّ أنَّ القائمين على الثقافة الشعبيّة الإماراتيّة استطاعوا بطرائقهم المختلفة إيصال صوت الإنسانية من خلال الذاكرة الشعبيّة الإماراتيّة لمجتمع منفتح ثقافيًا على مختلف الأطياف الفكرية يليق به "عام التسامح".